12 سبتمبر 2025
تسجيلفي مقال سابق في هذه الصفحة بعنوان "هل ينجح الشارع الجزائري في التغيير؟" تساءلت هل هناك أمل في تغيير الفضاء السياسي الجزائري وفتح مرحلة جديدة نحو الديمقراطية. فبعد ثلاثة أسابيع من المسيرات الصاخبة والمسؤولة والسلمية والحضرية عبّر الشارع الجزائري عن رفضه للعهدة الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. وبتاريخ 11 مارس 2019 جاء في بيان من رئاسة الجمهورية إعلان الرئيس عدم ترشحه لعهدة خامسة. كما أكد الرئيس أنه لم ينو من الأساس الترشح لعهدة خامسة نظرا لتقدمه في السن ومرضه. وهنا نتساءل من رشح إذن الرئيس بوتفليقة ومن طلب العهدة الخامسة؟ هل قامت حاشيته ومحيطه القريب منه بترشيحه رغما عن إرادته أو دون علمه، أم إن هناك تأويلات أخرى لهذا الإشكال؟ ما جاء في بيان يوم الإثنين مساءً يثير العديد من التساؤلات والإشكاليات. فاستجابة الرئيس لعدم الترشح لعهدة خامسة ما هي إلا مناورة للالتفاف على مطالب الشعب فهي في حقيقة الأمر إلغاء العهدة الخامسة وتمديد العهدة الرابعة بطريقة تخترق الدستور وتتناقض مع المادة 107 التي تنص على ما يلي: "يقرر رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية إذا كانت البلاد مهددة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسساتها الدستورية أو استقلالها أو سلامة ترابها"، والمادة 110 والتي تنص على "يوقف العمل بالدستور مدة حالة الحرب ويتولى رئيس الجمهورية جميع السلطات، وإذا انتهت المدة الرئاسية لرئيس الجمهورية تمدد وجوبا إلى غاية نهاية الحرب". فالوضع في الجزائر والحمد لله لا تنسحب عليه المادة 107 أو 110 فلا توجد حالة استثنائية ولا حرب. وإلى حد كتابة هذه السطور لم يُعلن عن حالة طوارئ في الجزائر أو حالة استثنائية للبلاد أو حالة حرب. فالرئيس بوتفليقة لا يريد أن ينسحب من الفضاء السياسي الجزائري ويخرج من الباب الضيق، بل هدفه هو أن يستمر في الحكم لغاية تسليم كرسي الرئاسة للشخص الذي يريده ويعدل الدستور بالطريقة التي يريدها ثم يخرج من الباب الواسع كما يريد هو وكما يخطط. الغريب في الأمر أن القرارات التي اتخذها الرئيس تتناقض جملة وتفصيلا مع الدستور الجزائري. فعملية تأجيل الانتخابات غير قانونية وغير دستورية وتمديد حكم بوتفليقة إجراء غير دستوري كذلك. فبعد 28 أبريل 2019 يصبح بوتفليقة إذا استمر في الحكم يحكم الجزائر بطريقة غير قانونية. أعود إلى الإجابة على سؤال مقالي السابق وهو بدون شك أن الشارع الجزائري إلى حد الساعة لم ينجح في التغيير ولو أنه استطاع أن يرغم الرئيس على إلغاء العهدة الخامسة. لكن الشارع طالب بإلغاء الخامسة وانسحاب الرئيس بوتفليقة من حكم الجزائر. ما نلاحظه مع الأسف الشديد أن الرئيس مدد فترة عهدته إلى سنتين أو ثلاث بدون انتخابات وبدون مرجعية قانونية ولا دستورية. وهذا يعني مع الأسف الشديد ان السلطة في الجزائر متشبثة ومتمسكة بالحكم ومتغطرسة ومتعجرفة ولم تقرأ الشارع كما ينبغي ولم تستجب لمطالبه. صحيح أن الجماهير التي خرجت إلى الشارع فرحت بخبر إلغاء العهدة الخامسة لكن بعد ساعات قليلة عادت نفس الجماهير لتعبر عن غضبها وعن رفضها الكامل للإجراءات التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة. ومن جديد طلبت عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل أخرى باستئناف المسيرات والمطالبة بتغيير فعلي وجاد وليس تغييرا شكليا. ما لم تضعه السلطة الحالية في الحسبان هو أن مجرد إلغاء العهدة الخامسة يعني بالضرورة الموافقة على القرارات والإجراءات التي سيتخذها الرئيس بوتفليقة. الشارع هذه المرة مصر على التخلص من النظام والشروع في إجراءات جديدة تعطي آليات جديدة للعمل السياسي الديمقراطي الشفاف والذي يقوم على النزاهة والالتزام. فالتغيير الذي يطلبه الشعب يتمثل في إنشاء مجلس تأسيسي وحكومة وفاق وطني لا تشارك فيها الوجوه التي عملت لفترات طويلة مع بوتفليقة والتي كانت جزءا من النظام. فعدول الرئيس بوتفليقة عن العهدة الخامسة يعتبر نصف نجاح وخطوة أولى نحو التخلص من النظام القديم الذي طوال عشرين سنة لم يجرؤ على القضاء على الفساد والتخلص من التجاوزات الخطيرة لأصحاب المال والنفوذ السياسي. بوتفليقة يأتي اليوم ويحاول إقناع الجزائريين بأنه بحاجة إلى سنة واحدة للتغيير ووضع الأسس اللازمة لجمهورية جديدة في الجزائر. المتأمل في قرارات بوتفليقة التي قدمها بيان الرئاسة في 11 مارس 2019 يستنتج أن بوتفليقة ومحيطه أرادا بطريقة دبلوماسية استغلال مطلب الشارع في التنحي عن العهدة الخامسة وتنفيذ ما أراد أن يطبقه في حالة ما جرت الانتخابات الرئاسية كما كانت مبرمجة حيث كان ينوي الاستمرار في الحكم لمدة سنة فقط والعمل على تنظيم المرحلة الانتقالية واختيار الرئيس الجديد. نفهم من هذا أن نية الرئيس بوتفليقة هي الخروج من المرادية من الباب الواسع أي بمحض إرادته وبعد ما يساهم في إرساء قواعد الجمهورية الجديدة. لكن نلاحظ هنا أن الإشكال الذي يُطرح بشدة هو أن خطة الرئيس تتناقض جملة وتفصيلا مع القانون والدستور. في الظروف الحالية لا يحق دستوريا للرئيس بوتفليقة تأجيل الانتخابات ولا الاستمرار في الحكم. ما يخشاه الشعب الجزائري في اقتراحات بوتفليقة هو سطو الانتهازيين والجماعة التي كانت تدير شؤون البلاد في الخفاء على الندوة الوطنية وتمرير رجالاتهم وقوانينهم التي تخدم مصالحهم الضيقة. فخلال 20 سنة من الحكم لم يستطع بوتفليقة التخلص منهم بل إن عددهم زاد وزاد معهم الفساد وسوء التسيير وتبذير المال العام. فإذا سلمنا بأن الرئيس بوتفليقة ستُعطى له الفرصة لتسيير المرحلة الانتقالية من خلال الندوة الوطنية وتنظيم الانتخابات من يضمن أن مطالب الشارع ستتحقق وأن الإجراءات التي يتخذها بوتفليقة ستفرز رئيسا ومؤسسات تضمن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية للشعب الجزائري. الشعار الأخير الذي تبناه الشارع الجزائري في التعامل مع الأزمة الحالية في البلاد بعد بيان الرئاسة يوم 11 مارس هو "لا تأجيل، لا تمديد، نريد منكم الرحيل"، وهذا يعني أن الشعب الجزائري مصمم على مواصلة المسيرات حتى ينسحب النظام من الساحة السياسية ويفتح المجال لوجوه جديدة من النخبة السياسية النظيفة والمعروفة بالنزاهة والكفاءة والالتزام لتنظيم الندوة الوطنية والانتخابات الرئاسية القادمة. فالإجراء السليم هو الإعلان عن شغور منصب الرئاسة وتطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري. والأمر الذي يخيف الملاحظين في هذا الإجراء هو موقف الرئيس بوتفليقة بالتخلي عن الرئاسة حيث إن الرجل يريد أن يموت رئيسا ولا ينوي البتة الخروج من السلطة من الباب الضيق. وبخروج الجزائريين بأعداد غفيرة أمس الجمعة 15 مارس وبأعداد تفوق أعداد يوم الجمعة 8 مارس قد وُضع بوتفليقة وحاشيته أمام أمرين اثنين، إما انسحاب الرئيس من السلطة يوم 28 أبريل، أو في حالة دعمه من قبل المؤسسة العسكرية، التمسك بموقفه الذي عبر عنه يوم 11 مارس 2019 وفي هذه الحالة قد يدخلنا هذا السيناريو في عملية تمسك كل طرف برأيه وقد يؤدي هذا إلى التصادم والانزلاق إلا إذا التزم الشارع بالهدوء والتبصر وسلمية المسيرات، أمس الجمعة 15 مارس منعطف هام في تحديد مصير الجزائر ما بعد 28 أبريل 2019. [email protected]