14 سبتمبر 2025

تسجيل

الإرهاب ضد (شارلي إيبدو) يجدد صدام الحضارات

16 يناير 2015

لا يختلف اثنان في العالم العربي والإسلامي أن الاعتداء الوحشي على الصحيفة الفرنسية الساخرة «تشارلي إيبدو»، التي يعمل فيها كبار رسامي الكاريكاتير في العالم- وبغض النظر عن آرائهم السياسية التي قد تجنح أحياناً، وعبر المبالغة، نحو خطأ التقدير أو تعميم الأحكام على أديان أو شعوب- يمثل عملاً إرهابيا مشيناً، ويدخل في سياق تشويه صورة الإسلام والعرب وكل المسلمين في العالم، إنه « إسلام التنظيمات الإرهابية والتكفيرية ضد الإسلام الحنيف والمعتدل والمتسامح». ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والحروب المتسلسلة التي استتبعتها (حرب أفغانستان، حرب العراق، والحرب الأخيرة في سوريا) تشهد المنطقة العربية نموا متزايداً لإرهاب الحركات الإسلامية المتشددة،«القاعدة» أولاً، ثم «داعش» في الوقت الحاضر، الذي ألحق الأذى بالإسلام والمسلمين والعرب أساساً أكثر بكثير مما أذى غيرهم من أتباع الأديان والقوميات الأخرى. إذ بعثت هذه التنظيمات التكفيرية من جديد مناخ «الفتنة الكبرى» في البلاد العربية خصوصاً والإسلامية عموما، وأحيت نبوءة صدام الحضارات الإسلام – الغرب، التي بلورها صمويل هنتنغتون في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث أصبحت في طريقها إلى أن تتحقق ذاتيا، لأن التأويل الذي نعطيه عن هذا العنف، وجغرافية هذا العنف، يعكس التناقض بين الغرب والعالم الإسلامي.وما هو دراماتيكي وخطير، أن الترجمة الواقعية لهذه المقولة(صدام الحضارات) تمارس من الجانبين، فهناك «أدبيات» فكرية وسياسية يجري الترويج لها على نطاق واسع في الإعلام الغربي تزعم أن الإسلام هو مصدر الفكر الإرهابي. وبالتالي فإن الحرب على الإرهاب تتطلب وبالضرورة الحرب على الإسلام. وفي المقابل فإن الأدبيات الإسلامية تقول: إن الحرب على الإرهاب تستهدف الإسلام، إلا أن هذه الأدبيات مخنوقة، إذ إنها تكاد تكون سجينة الإعلام العربي الذي يرددها إلى حد الاجترار من دون أن يتمكن من توصيلها إلى الرأي العام العالمي.لكن السؤال الذي يطرحه المحللون الغربيون أمام هذا المعطى المتشائم، من أين يأتي هذا العنف؟ وما هي جذوره، وكيف يمكن معالجته؟ في الواقع نحن نجد أنفسنا أمام مقولتين متناقضتين: واحدة تدعو إلى الحرب على الإرهاب باعتباره جزءاً من الثقافة الإسلامية، والثانية تدعو إلى الحرب على الإرهاب باعتباره مظهراً من مظاهر العداء للإسلام، هذه الثنائية الجدلية تنطلق من ثابت مشترك واحد وهو الأحكام المسبقة. شكلت أحداث 11 سبتمبر2001 التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية قطيعة بين مرحلتين في الوضع العالمي، تتداخل وتتشابك عناصر الاتصال بينهما مع عناصر القطيعة.. ولم تكن مجرد عملية إرهابية عادية، بل إنها شكلت نقلة نوعية بالغة الأهمية في أشكال وآليات الصراع الدولي، وتسببت في إعادة تشكيل السياسات الخارجية للدول الكبرى، بما يتضمنه ذلك من إعادة تعريف دور أدوات هذه السياسات، ولاسيَّما الأداة العسكرية، وبالذات الولايات المتحدة.وكان من أبرز نتائج هذه التطورات أنها دفعت الإدارة الأمريكية إلى وضع هدف مكافحة الإرهاب ومعاقبة الدول التي ترعاه باعتباره الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية، وهذه هي المرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة التي تضع الولايات المتحدة لنفسها هدفا محددا يكون محور التركيز الكامل لسياستها الخارجية، حيث كان التركيز الرئيسي للسياسة الخارجية وسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة ينصب على محاربة الشيوعية وردع الاتحاد السوفيتي السابق، مما يعني أن الإدارة الأمريكية وضعت هدف الحرب ضد الإرهاب في نفس المكانة التي كان يحتلها هدف محاربة الشيوعية في فترة الحرب الباردة.إن احتلال الإدارة الأمريكية لمركز القيادة في النظام العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة، لم يحل دون نشوب الحروب الإقليمية، في بلدان جنوب العالم، إنها حروب تكثفت وتلخصت في ثناياها جميع عوامل الحرب العالمية الشاملة: حرب الخليج الثانية، حرب البلقان، وغيرها من الحروب الأخرى في القارات الثلاث. ففي هذا المناخ جاءت أحداث 11 سبتمبر2001 لتختتم مرحلة كانت الولايات المتحدة فيها قد أنجزت مقاربتها مبدأها«الحرب دون أي قتيل»، ممنية نفسها بالحد قدر الإمكان من خسارة في الأرواح الأمريكية في الحروب المستقبلية، مكبدة في الوقت نفسه الأعداء العدد الأكبر من الخسائر، والتي عززت تدريجيا هذه الديناميكية النابذة، وأكدت أن العنف كان مستقطبا وفي تناقص على المسرح الدولي، ولكنه متجزأ أكثر فأكثر. الأزمة التي أثارتها حادثة الهجوم الإرهابي على صحيفة «شارلي إيبدو»، أزمة عالمية وشاملة، وهي أزمة عالمية بمعنى أنها تقحم بلدانا مختلفة عديدة في النزاع،على رأسها، بطبيعة الحال، فرنسا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية ومناطق من العالم الإسلامي. وهي شاملة كونها، تؤثر، أكثر من أي أزمة عالمية عرفت حتى الآن، في مستويات متعددة من الحياة، سياسية واقتصادية وثقافية ونفسية.في ظل أجواء إعلان هذه الحرب، نظمت أجهزة الإعلام الأمريكية والأوروبية والصهيونية حملة واسعة شرسة على الإرهاب، بوصفه المسؤول الرئيسي عن ما حدث، ونال العرب والمسلمون نصيب الأسد من هذه الحملة التي لم تتوقف. ويختلف المحللون الغربيون في توصيفهم لمضمون الموجة الحالية من الإرهاب الجديد، ولاسيَّما بشأن العلاقة الارتباطية بين الإرهاب والإسلام. فرغم أن الإرهاب موجود في العديد من الدول، ويصيب بدرجة أو بأخرى العديد من الحضارات والثقافات، فإن بعض المفكرين الغربيين، وبالذات صامويل هنتنجتون، ركزوا على أن الإرهاب لا يمثل شكلا من أشكال الصراع الدولي، بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره حروب المسلمين، سواء فيما بينهم أو بينهم وبين غير المسلمين. وهي حروب قد تتطور إلى صدام كبير للحضارات بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام وبقية العالم. ويرى هانتنجتون أن هذه الحروب لا تعود إلى طبيعة المعتقدات الإسلامية، وإنما تعود إلى السياسات والأوضاع العامة في العديد من الدول الإسلامية، مثل حالة الانبعاث الإسلامي والشعور بالظلم والامتعاض والحسد تجاه الغرب والانقسامات الإثنية في العالم الإسلامي، وارتفاع معدلات الولادة في معظم الدول الإسلامية. ويخلص إلى أن حروب المسلمين سوف تستمر في حالة عجز المجتمعات الإسلامية عن تحقيق إصلاحات داخلية جذرية، وكذلك في حالة استمرار الحكومات غير الإسلامية في محاولة فرض سيطرتها على الأقليات الإسلامية فيها.المنطق والعقل يقولان لماذا اكتسبت الدول الغربية كل هذا الكم الهائل من الكراهية من الشعوب والأمم المضطهدة؟ والعقلانية تقتضي البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت بالولايات المتحدة إلى هذا التدهور؟ إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة الكيان الصهيوني، متفقتان على تفتيت العالم العربي، وإخضاع كل القوى فيه. أما ما سر الحملة الأوروبية – الأمريكية – الصهيونية الشرسة على العرب والمسلمين واتهامهم بممارسة الإرهاب، فهي جزء من المعركة السياسية – العسكرية التي تخوضها الحكومات الصهيونية والأمريكية. وهدف هذه الحملة أن تترسخ صورة العربي والمسلم إرهابيا في كل أوساط الرأي العام العالمي، ليكون مبررا للقيام بالغزوات والحروب. من المنظور الأمريكي الهدف من الحرب على الإرهاب، هو فرض الأمن على منطقة الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأمريكية، بالتلازم مع تحقيق الأمن للكيان الصهيوني والإفساح في المجال للوصول إلى السلطة نخب عربية ليبرالية موالية للغرب منبثقة من المجتمع المدني. هذه الإستراتيجية وضعت موضع التطبيق بعد احداث11 سبتمبر من خلال «الحرب على الإرهاب» التي أرادت تصفية تنظيم القاعدة، وإسقاط نظام صدام حسين، والسيطرة على نفط الشرق الأوسط، وإعطاء الضوء الأخضر لحرب الإبادة الصهيونية التي شنها السفاح نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.وتقوم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على هاتين الركيزتين: النفط الذي يحتل أولوية قصوى، وتحقيق أمن «إسرائيل» الذي أصبح يحتل المرتبة الأولى بعد حرب يونيو 1967. وتكمن الصعوبة كلها في تحقيق هذين الهدفين، وهذا ما يفسر لنا احتمالات قيام الدول الغربية و«إسرائيل» بحروب جديدة أوسع وأشرس ضد العرب في المنطقة العربية. إن التشديد على محاربة الإرهاب وعدم قبول التعامل معه لفظا، ودعم حكومة إسرائيل الإرهابية، وعدم توجيه الدوائر الأوروبية والأمريكية «المعنية بالحرية» والمدافعة عن حقوق الإنسان، النقد والإدانة للكيان الصهيوني الذي يمارس إرهاب دولة، يقود إلى سقوط مصداقية حكومات الدول الغربية مع اتباعها وحلفائها، وسقوط هذه المصداقية له تبعاته الكبيرة. فإذا وضعنا جانباً حقيقة أن الإرهاب ازداد ولم ينقص، وبات يشمل كل العالم تقريباً منذ بدء انتفاضات «الربيع العربي»، وما سمي بـ«الحرب» عليه (لسبب بسيط وهو أن القضاء على الإرهاب لا يمكن أن يتم إلا بمعالجة أسبابه)، فإن أهم ما نستخلصه هو أن هذا الإرهاب حاجة لـ«أعدائه»: فإذا كان موجوداً يجب التغاضي عنه، وإن لم يكن موجوداً يجب خلقه كي يكون الذريعة لتنفيذ المخططات.. فهل من عاقل يتوخى، في هذه الحال، أن يقضي المستفيد من الإرهاب على الإرهاب، ويسحب من بين يديه ذريعته؟! الإرهاب، إذاً، هو خدمة يتطلبها السيد، والسيد يغذّي خادمه كي يستمر في خدمته.. أما المتمرد على الخدمة فسيسمى كذلك «إرهابياً»، عله يتحوّل إلى خادم أيضاً.هل إن التنظيمات التكفيرية وحدها أشارت إلى أن الغرب يجسد إمبراطورية الشر بامتياز، والرغبة بالسيطرة على العالم بأنانية متفردة؟ لا. فالكاتب الفرنسي الاشتراكي بيار بوشيه كتب منذ عام 1840 إن العداوة للأمريكيين قديمة. فإذا أراد الغرب أن يثبت مكانته في العالم، وأن يجني فوائد حروبه على المدى البعيد، فعليه أن يبذل جهدا حقيقيا لفهم أسباب خشية وكره الشعوب الأخرى له. والمشكلة الحقيقية لا تتجلى في الإرهابيين أنفسهم إنما في حكومات الدول الغربية نفسها، التي تستغل الأزمة في أي بلد عربي أو إسلامي للنيل من حرية وحقوق الشعوب، لا للقضاء على الإرهاب كما تزعم، وإنما لتحقيق مخططاتها السياسية.على الدول الغربية أن تعيد النظر بعلاقاتها مع دول العالم العربي والإسلامي إذا أرادت اجتثاث الإرهاب ومعالجة أسبابه، لأن هناك حكاما يمارسون الإجرام وإرهاب الدولة، وهذا ما ينطبق تماما على تصرفات أصدقاء الولايات المتحدة من الصهاينة، الذين يتبعون سياسة ما هو أبشع من الجريمة، وأمريكا تغطي هذه السياسة كما حصل في العدوان الأخير على غزة.