18 سبتمبر 2025

تسجيل

تونس تنتظر إقرار الدستور الجديد (1)

16 يناير 2014

كان من المأمول أن تحتفل تونس بالذكرى الثالثة للثورة يوم 14 يناير الجاري، مع إقرار الدستور الجديد للجمهورية الثانية، الذي يليق بالثورة التونسية مفجرة "الربيع العربي"، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بسبب التأخر في بت ثلث الفصول المئة والستة أربعين في مشروع الدستور، بعد 12 يوماً من النقاشات، ورفض بعض البنود الأساسية خلال الأيام الأخيرة في أجواء صاخبة في المجلس التأسيسي، نتاج الخلافات السياسية، وهيمنة الاستقطاب في الساحة السياسية على النقاشات. غير أن هذا لا يمنع من الإقرار بالتقدم الذي حصل على صعيد التصويت على بنود مشروع الدستور الذي بات يحظى بالتوافق الوطني، بما يعزز المقومات الأساسية لدولة سيادة القانون واحترام الحقوق والحريات العامة، ويعكس رؤية السلطة والمعارضة لدعم بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة. فقد أسهمت لجنة التوافقات بالمجلس الوطني التأسيسي في بلورة توافق سياسي واسع في الوقت الذي لاتزال فيه حركة النهضة تسيطر على الحكومة وتمتلك الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، وفي ظل المناخ السياسي العربي الذي يشهد مدّاً إرهابياً وتكفيرياً منقطع النظير، لاسيَّما في بلدان المشرق العربي، للمرحلة القادمة بعيداً عن المصالح الضيقة للأحزاب السياسية، لتحسم، بطريقة أو بأخرى، معارك أيديولوجية عسيرة حول مفاهيم مثل "مدنية الدولة" و"الهوية العربية الإسلامية" و"حرية الضمير" و"حقوق المرأة". وبالفعل، بدأ المجلس التأسيسي الأسبوع الماضي التصويت على الأجزاء النهائية من الدستور الجديد، إذ إن المسودة لمشروع الدستور لم تنص صراحة على أن "الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع"، بل اكتفت بالفصل الأوّل من الدستور التونسيّ الذي وُضع عام 1959، وهو ما ورد في صياغة مشروع الدستور الجديد، حيث جاء في "الفصل الأول: تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، كما جاء في الفصل الثاني: "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون". وصادق "التأسيسي" مؤخراً على "تجريم التكفير والتحريض على العنف"، وذلك بعد خلافات حادة بين نواب حركة "النهضة" الإسلامية (أكبر حزب بـ89 مقعداً من أصل 217) ونواب المعارضة،إذ أصبح الفصل السادس في صيغته المعدلة يقول "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. يُحجَّرُ التكفير والتحريض على العنف". وصوت على الفصل في صيغته المعدلة 131 نائبا من أصل 182 شاركوا في عملية الاقتراع فيما صوت ضده 23 وتحفظ 28. ويمثل ما ورد في هذا الفصل من الدستور التونسي من تعبير "حرية الضمير" حالة ثورية في مجمل العالم العربي والإسلامي الذي يعني ليس فقط حرية العبادة بل حرية اعتناق العقيدة التي يريدها الإنسان. وكان تعبير "حرية الضمير" تبناها الفاتيكان في وثائقه. وسبق للبابا السابق في وثيقة سينودس كنائس الشرق الأوسط أن انتقد "العوالم العربية والتركية والإيرانيّة" بأنها رغم تبنّيها لحرية ممارسة الشعائر الدينية لكل الأديان غير أنها ترفض "حرية الضمير". في المرجعية الدستورية والقانونية الغربية برز مصطلح: "حرية الضمير" وتطور كمفهوم ديني مع توماس الإكويني في الكنيسة الكاثوليكية، ثم تحوّل إلى أساس في الفكر الديني البروتستانتي منذ تمرد لوثر إلى دعوة كالفن حتى تكرّس كمفهوم سياسي مع الفيلسوف جان لوك من حيث عدم جواز سلطة الدولة على معتقدات الأفراد حتى تبنّيه في الفكر السياسي الأميركي الذي أسّس الدستور الأميركي. وهو في الحصيلة المعاصرة حق الفرد وحده في تقرير معتقده الديني راجع الفصل المتعلّق بتاريخ المصطلح في الصفحات 27-33 من كتاب المفكر السياسي الحقوقي الأمريكي نواه فلدمان Divided By God الطبعة الأولى عام 2005 في نيويورك منشورات Farrar. Straus and Giroux. ويعتبر إقرار تعبير "حرية الضمير" في الدستور التونسي الجديد، منعطفاً كبيراً في التاريخ الدستوري العربي الذي نشهد بدايته في تونس، حيث يؤكد على ثقة المجتمع التونسي بنفسه، يعكسها مجتمع مسلم حين يقر "مدنية الدولة" و"حرية الضمير" بشكلٍ لا التباس فيه! مجتمع لا ترى نخبته المتنورة أي خطر على الإسلام الراسخ كقوة ثقافية عميقة في كل العالم. هذا فعلُ ثقة جديد بـ"النفس" بما هي الشخصية الاجتماعية للبلد تفتتحه النخبة الليبرالية العلمانية والإسلامية في تونس في مواجهة تيار أصولي مذعور حضاريا ويريد أن ينشر الذعر بين المسلمين عبر قتلهم قبل قتل غيرهم، حسب قول الصحافي اللبناني جهاد الزين. كما صادق المجلس الوطني التأسيسي، يوم الاثنين الماضي، على الفصل 20 من الدستور الجديد الذي يقر المساواة بين التونسيات والتونسيين في الحقوق والواجبات. وصوت 159 نائباً من أصل 169 شاركوا في عملية الاقتراع على الفصل 20 من الدستور الذي يقول "المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم". ويعتبر أيضاً تضمين حقوق المرأة ومكتسباتها في نص الدستور الجديدة نقطة إيجابية. ففي النص الأول الذي اعتمدته «لجنة الحقوق والحريات»، التي أعدت الفصول المتعلقة بالحريات، تم اعتماد صيغة «التكامل بين المرأة والرجل»، لكن رفض المرأة التونسية الذي عبرت عنه بالاحتجاجات والتظاهرات لدور التكامل حال دون الإبقاء على هذه الصيغة. فقد طالبت الكتلة النسائية البرلمانية، وهي كتلة ضمت نساء من مختلف الأحزاب، أيضاً بدورها بإدراج مبدأ التناصف، أي أن يكون في كل القوائم الانتخابية ذات العدد من المرشحين الذكور ومن المرشحات الإناث، فأصبح الفصل ينص على النحو التالي:45: " تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة، وتتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة". وتعتبر تونس البلد العربي الوحيد منذ العام 1956 الرائد في منح أفضل الحقوق للمرأة، باستثناء ما يتعلق بالميراث نظراً إلى أن الإسلام هو دين الدولة. لكن الإقرار بالمساواة الكاملة على صعيد المواطنة ستكون تداعيات في المستقبل، لجهة رفــع العقـــبة الأخيرة، أي انعدام المساواة في ما يتعلق بالإرث. ورغم بروز الانقسامات السياسية بين نواب حركة النهضة، ونواب المعارضة، واصل المجلس الوطني التأسيسي في تونس التصديق على مشروع الدستور الجديد، وتحديداً التصويت على مواد الباب الرابع الخاص بالسلطة التنفيذية، وبحسب مواد هذا الباب فإنّ السلطة التنفيذية ستكون موزعة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وستكون الحكومة مسؤولة أمام البرلمان ويمكن أن تكون موضع مذكرة حجب ثقة. وفي تفاصيل جلسات التصويت التي جرت، فقد تمّ إسقاط الفصل 73 من الدستور الذي يحدد شروط الترشح لرئاسة الجمهورية بعد نقاشات حامية. وتنص هذه المادة على أنّ الترشح لرئاسة الجمهورية في تونس هو حق لكل ناخبة أو ناخب من أب وأم تونسيين، وأن يكون مسلماً. وتنص أيضاً على ضرورة ألا يحمل المرشح لهذا المنصب في تاريخ تقديم ترشحه جنسية أخرى وألا يقل عمره عن 40 سنة على الأقل ولا يزيد على 75 سنة على الأكثر وأن يحصل على تواقيع عدد من النواب أو رؤساء الجماعات المحلية أو ناخبين مسجلين بناء على القانون الانتخابي. ولم يعرف متى ستتم إعادة النظر في هذا الفصل. واتفقت الكتل النيابية مبدئياً، على انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، بعدما كان ينتخب من البرلمان. كما أسندت إلى رئيس الجمهورية صلاحيات رسم السياسة الخارجية والدفاعية للدولة والتعيينات في الوظائف الدبلوماسية العسكرية والمرتبطة بالأمن الوطني، إضافة إلى استشارته في تعيين وزيري الخارجية والدفاع. ويعتبر مراقبون أن النظام السياسي المحدد في الدستور الجديد، "مختلط" بين الرئاسي والبرلماني، إذ أعطى صلاحيات كبيرة للحكومة مقابل صلاحيات الدفاع والدبلوماسية وحل البرلمان لرئيس الجمهورية. وشهدت المناقشات حول الباب المتعلق بالسلطة القضائية، انقساماً حاداً بين نواب حركة النهضة وحلفائها ونواب المعارضة، إذ أكد رئيس الكتلة الديمقراطية المعارضة محمد الحامدي أن "كتلة حركة النهضة صوتت لمصلحة فصل ينص على عدم استقلالية القضاء وجعله تحت سطوة السلطة التنفيذية"، بينما ساندت كتلة "النهضة" إضافة تعديل إلى الفصل 103 ينص على أنه "تتم التعيينات في الوظائف القضائية بأمر من رئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل". أثبتت الثورة التونسية أنها الحالة الأنجح في التحول من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، نظراً إلى يقظة الشعب التونسي، لاسيَّما منظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية المعارضة، والمنظمات النسائية، التي أبدت حرصاً كبيراً على أن يكون الدستور التونسي الجديد يعكس آمال الشعب التونسي في التطلع نحو بناء ديمقراطية جديدة، تسود فيها المساواة أمام القانون. إضافة إلى أن طبيعة الثورة السلمية التونسية ويقظة المجتمع المدني، فرضتا على حركة النهضة أن تكون متمايزة عن الإخوان المسلمين في مصر. وهذا ما قاد إلى تكريس سياسة التوافق الوطني بين سلطة النهضة والمعارضة، تجاه عملية الانتقال الديمقراطي بدلاً من سياسة الغلبة والتفرد بالسلطة. إن التوافق بين الخصوم في العمل السياسي هو جوهر العملية الديمقراطية. وأثبتت التجربة التونسية أيضاً أن التوافق والحوار الوطني المفضي إلى التنازلات السياسية بين السلطة والمعارضة تغليبا لمصلحة الوطن والشعب هو الطريق الأسلم والأنجع للتغلب على الأزمات الكبيرة.