31 أكتوبر 2025

تسجيل

إصلاح الواقع العربي

15 نوفمبر 2015

ثمة حقائق في موضوع الإصلاح العربي، في هذه المرحلة، قد يَعرفها البعض، لكن الحديث عنها يَدخلُ في إطار التابو والمحرمات، خاصةً بين المثقفين والمفكرين والكتاب. فملابسات الواقع العربي الراهن، ودرجة تعقيده، خلقت أجواء يشعرون معها أنها لا تسمحُ لهم إلا بـ (الاصطفاف)، ومتطلباته العملية في عطائهم الفكري.وبشكلٍ عام، بات الحديث عن (إصلاحٍ عربي) بالمعنى المألوف غريباً، وموضوعاً تجاوزهُ الزمن لدى كثيرين، لأن الواقع العربي الراهن في نظرهم لم يعد يحتمل، ابتداءً، التعامل معه من هذا المدخل، خاصةً بعد انفجار (الربيع العربي) وثوراته. يرى هؤلاء أن الواقع العربي، خاصةً على صعيد الحكومات والدول، أصبح واقعَ محاور واستقطاب سياسي وأمني واقتصادي حاد ونهائي. وأن العرب الآن محكومون بالضرورة بصراعٍ متعدد المستويات والمسارات، لايمكن أن تكون نتيجته إلا على طريقة (غالب أو مغلوب).هذا منطقٌ يحيل إلى مآلٍ واحد: انهيارٍ عربيٍ عامٍ وشامل لا يمانع في حصوله النظام الدولي، كي لا نتكلم عن دوره في الدفعِ إليه وتحقيقه. فضلاً عما في ذلك المنطق من فقرٍ قاتل في الفكر السياسي، وإفلاسٍ في حقل الإبداع المتعلق بذلك الفكر، واستلابٍ كاملٍ للواقع يجعل ردودَ الأفعال مُنطلقَ السياسة العربية هذه الأيام، ولو حصل هذا بلبوسٍ كاذب من اعتقاد البعض بأنهم، على العكس، ينطلقون من المبادرة والفعل.وكما ذكرنا سابقاً: ليس مهماً هنا وصفُ ما حدثَ خلال السنوات الماضية بـ (الربيع العربي) أو غير ذلك. لا يُغير في الأمر شيئاً رفضُ تسمية (الثورات) من قبل البعض، والإصرارُ عليها من قبل البعض الآخر. فهذه تقسيماتٌ في ذهننا وحدَنا كعرب، وليست سوى عنصرٍ (جانبي) و(إعلامي) في تعامل النظام الدولي مع المنطقة. والتفكيرُ بتلك الطريقة أقرب لما يكون بـ (تفكيرٍ رغائبي) لاعلاقة له بحقيقة المشهد وحساباته.حَصلت الثورات العربية لأسباب تاريخية، ثقافية واقتصادية وسياسية، في غاية المنطقية، وبتأثيرٍ تغييرات عالمية هائلة تمتد من ثورة المعلومات والاتصالات ولا تنتهي بممارسات النظام الدولي المتعلقة بالمنطقة. وهذا كله يحتاج لجهدٍ بحثي وعلمي مؤسسي وفردي متطاول، يهدف لفهم الظاهرة، لم يتم حتى الآن في العالم العربي.بغض النظر عن ذلك الآن، ما يهمنا هو أن ما جرى سَحَبَ الواقع العربي، بأسره، تدريجياً إلى ماهو عليه اليوم. واقعٌ يَظهرُ، إذا استسلمنا له، أنه محكومٌ فعلاً بالمحاور والاستقطاب السياسي والأمني والاقتصادي الحاد والنهائي. وأن أطرافه، الدول والحكومات تحديداً، محكومةٌ بالضرورة بصراعٍ متعدد المستويات والمسارات، لا يمكن أن تكون نتيجته إلا على طريقة (غالب أو مغلوب).لكن السؤال الذي يجب أن يكون مطروحاً بقوة، وتحديداً من قبل تلك الدول والحكومات: هل هذا حقاً قدرٌ بات أشبهَ بلعنةٍ لم يعد ممكناً الخلاصُ منها إلا بالانتحار؟ نذكر الانتحار نتيجةً وحيدةً هنا لأن من الواضح استحالة حسم ذلك الاستقطاب، والصراع المترتب عليه، بطريقة غالبٍ أو مغلوب. وإذا بقي الاعتقاد بتلك المقولة قائماً، فإننا أمام معادلةٍ صفرية لن تكون نتيجتها سوى الفوضى الشاملة والطويلة في العالم العربي، ولانستخدمُ هنا كلمة (فناء) العالم العربي تجنباً لشبهة وجود مبالغةٍ دراميةٍ في التحليل.عودةً إلى السياسة بِكَونها (فن الممكن). ثمة واقعُ راهنٌ يَعتقد أنه ينطلق منها. وهناك جملة حقائق في مسار هذا الواقع يجب الحديث فيها بصراحةٍ وشفافية، من أهمها محاولات (تغطية) الواقع الذي نتحدث عنه بأساليب دبلوماسية. لكن هذا، فضلاً عن أنه لايحل المشكلة، فإنه يَحمِلُ في طياته أيضاً تناقضات بنيوية، إعلامية وسياسية وأمنية، تُوسعُ دوائر الحساسيات وفقدان الثقة، وتصيب شعوب المنطقة بفوضى فكرية، بل إنها تصبح مجالاً للتندر في أوساطها، بشكلٍ يخصم من المصداقية والمشروعية السياسية للأنظمة جميعاً.أما في نظرةٍ للسياسة بكونها إبداعاً في (فن الممكن)، فثمة أفقٌ يجب التفكير والحوار فيه، يتعلق بكمونٍ فيها على صعيد الوسائل والرؤية يتجاوز ذلك الواقع المُحاصرَ البائس.يقع هذا أولاً على عاتق من يحمل هم الواقع العربي بجديةٍ أكثر.. ومن يتميز بوعيٍ سياسيٍ أكبر.. ومن امتلك خبرةً في الإبداع السياسي والمرونة والتفكير خارج الصندوق تتجاوزُ الكثيرين.. ومن يحمل هذه الصفات يعرف نفسه.وإلى دور هؤلاء الأساسي الذي لاحاجة لتفصيلٍ فيه، يبقى دور المثقف العربي الذي ذكرنا أعلاه أن ملابسات الواقع العربي الراهن، ودرجة تعقيده، خلقت أجواء يشعر معها أنها لاتسمحُ له إلا بـ (الاصطفاف). هذا عاملٌ يؤكد تدريجياً تحول المثقف والمفكر العربي إلى جزءٍ من المشكلة بدل أن يكون جزءاً من الحل، والأرجح أن يبقى هذا حال شريحةٍ كبيرة من هؤلاء وخيارهم، سواء رأوا نفسهم هنا أو هناك.لكن جدية الموقف يمكن أن تدفع بعضهم، على الأقل، لمراجعة مواقفهم وعطائهم، بحيث يعودوا، من خلال فكرهم، إلى مواقعهم المُفترضة: قيادةً للواقع، ترفض الاستسهال الفكري والعملي، وتأبى الاستسلام لمعطياته وضغوطه بدعوى (الواقعية).