15 سبتمبر 2025
تسجيلأفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة والدفاع عن مصالح المحرومين والضعفاء والمساكين في المجتمع من خلال إبراز الحقيقة والبحث عنها بدون هوادة. فالسلطة الحقيقية في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية التي تمثلها شركات كونية يزيد حجمها الاقتصادي أحيانا عن ميزانيات بعض الدول والحكومات. فالتطور الجيواقتصادي الذي شهده العالم خلال العقود الأخيرة أدى إلى تغييرات وتطورات حاسمة في الصناعات الإعلامية والثقافية على المستوى العالمي. وبذلك أصبحت وسائل الإعلام الذائعة الانتشار كالصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والشبكات التلفزيونية والإنترنت تتمركز أكثر فأكثر في يد شركات عملاقة مثل "فياكوم" و"نيوزكورب" و"مايكروسوفت" و"برتلسمان" و"يونايتد غلوبال كوم" و"ديزني" و"تلفونيكا" و"آي. أو. أل تايم وارنر" وجنيرال إليكتريك" وغيرها. هذه الشركات العملاقة أصبحت تملك، وبفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة إمكانات وقدرات هائلة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية – الكتابة- الصوت-الصورة وفتحت المجال أمام الإنترنت والوسائط المتعددة والثورة الرقمية التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة والمجموعات الإعلامية تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، ومستعملة لبث ونشر ذلك، قنوات متعددة ومتنوعة من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنت. كما تتميز هذه المجموعات ببعدها الكوني العالمي حيث إنها تتخطى الحدود والدول والجنسيات والثقافات، فهي كونية وعالمية الطابع. وبذلك أصبحت هذه الشركات العملاقة ومن خلال آليات الهيمنة والتمركز تسيطر على مختلف القطاعات الإعلامية في العديد من الدول والقارات لتصبح بذلك الرافد الفكري والأيديولوجي للعولمة الليبرالية. فلا عولمة بدون عولمة وسائل الإعلام الجماهيرية وعولمة الصناعات الإعلامية والثقافية. ويرى إغناسيو راموني، رئيس تحرير " لو موند ديبلوماتيك" في هذا الشأن أن العولمة هي أيضا وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل الاتصال والأخبار. وفي سياق اهتمامها بتضخيم حجمها واضطرارها لمغازلة السلطات الأخرى فإن هذه الشركات الكبيرة لا تضع نصب أعينها هدفا مدنيا يجعل منها "السلطة الرابعة" المعنية بتصحيح التجاوزات على القانون واختلال العمل بالنظام الديمقراطي سعيا إلى تحسين النظام السياسي وتلميعه. فلا رغبة لهذه الشركات في التحول إلى "سلطة رابعة" أو التصرف كسلطة مضادة. فالحالة الفنزويلية نموذجية على هذا الصعيد للوضعية الدولية الجديدة التي تشهد مجموعات إعلامية غاضبة تتنافس علنا للقيام بوظيفة كلاب الحراسة الجديدة لدى النظام الاقتصادي القائم وممارسة دورها كسلطة معادية للشعوب والمواطنين. وهي لا تخوض فقط في سلطتها الإعلامية بل تمثل الذراع الأيديولوجية للعولمة ووظيفتها احتواء المطالب الشعبية وصولا إلى محاولة الاستيلاء على السلطة السياسية (كما توصل إلى ذلك ديمقراطيا في إيطاليا السيد سيلفيو برلوسكوني، صاحب أكبر مجموعة إعلامية ما وراء جبال الألب)... هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليغارشية التقليدية والرجعية الكلاسيكية. وتقوم معا، وباسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة وهي تكشف بأكثر الصور وضوحا وبداهة وكاريكاتورية عن أيديولوجية العولمة الليبرالية. أدت التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والانتشار الواسع لوسائل الإعلام في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - من انتشار الصحافة ذات التوزيع الكبير إلى اختراع السينما والراديو والتلفزيون إلى انتشار الكتاب، وأخيرا انتشار الوسائط المتعددة والإنترنت- إلى "جمهرة" وجماهرية الثقافة حيث جعلتها في متناول الغالبية العظمى من أفراد المجتمع. فإذا كانت الثقافة قبل هذه الاختراعات تقتصر على نخبة من النبلاء والبرجوازيين فإنها اليوم انتقلت من النخبوية إلى الجماهيرية. الأمر الذي أدى ببعضهم للكلام عن ديمقراطية الثقافة وجماهيريتها. لكن هل هذا الانتشار وهذه "الدمقرطة" التي يدعيها البعض بريئة ولا تحكمها آليات وميكانيزمات وقيم ومعايير تخدم القوى السياسية والاجتماعية التي تدير وتقود المجتمع؟ هناك من يرى أن انتشار الثقافة على نطاق واسع أدى إلى مساءلة ظاهرة الصناعات الثقافية التي أدت إلى تعليب الثقافة وتنميطها ومن ثم إلى توحيد الخطاب الإعلامي والثقافي ومن ثم القضاء على الخصوصيات الثقافية. ما هي تداعيات تصنيع الثقافة وتعليبها وتنميطها وتفريغها من محتواها على الثقافة نفسها؟ ثم على المتلقي؟ أسئلة جديرة بالدراسة نظرا لأهميتها ووقعها، ليس المستوى القطري فقط وإنما على المستوى الإقليمي والدولي كذلك. ألا تساهم وسائل الإعلام في نشر ظاهرة الأحادية أو التوحيد الثقافي؟ ألا تساهم في عولمة الثقافة لصالح دولة معينة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. نلاحظ من جهة أخرى أن الكثيرين تفاءلوا خيرا وظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة وبذلك مشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وفي صناعة القرار. لكن الواقع أثبت عكس ذلك تماما حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة سواء في الشمال أو الجنوب. وفي هذا السياق يرى "جون ألترمان" هذه الإشكالية في الشرق الأوسط على النحو التالي:"بعقدهم آمالا كبيرة على التطور التكنولوجي العالي؛ الإنترنت، والتفاعلية والربط الشبكي، يتوقع المتحمسون وأنصار التواصل الرقمي عالما تتوسع فيه سلطة الجماهير، الأمر الذي يؤدي إلى كبح جماح الجبابرة، ورفع رايات الديمقراطية في أرجاء المعمورة. هذه الرؤية لم يتم تحقيقها في الشرق الأوسط ومن غير المحتمل أن تتحقق في الوقت القريب. وفي حقيقة الأمر فإن التطورات التكنولوجية، على المدى القصير، من شأنها عادة زيادة الفوارق في النفوذ والسلطة بين الأغنياء والفقراء. فالفوائد التي تجنى من الابتكارات العصرية تزيد من نفوذ أصحاب المال وذوي الدخل العالي وأصحاب الفرص والشهادات والتدريب الجيد؛ بينما يحرم الفقر والعزلة الغالبية العظمى من سكان الشرق الأوسط من الاستفادة بشكل مباشر من ابتكارات التكنولوجية العالية. هناك ثلاثة شروط رئيسية لتوقعات التطور المستقبلية في الشرق الأوسط وهي الحرية والتمويل والاحترافية. ويبقى التلفزيون في الوطن العربي حبيس الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، وتابع لشبكة عالمية من الصناعات الإعلامية والثقافية التي لا ترحم ولا تشفق على من لا ينتج وينافس. فبوجود أكثر من 1400 فضائية عربية ناهيك عن انتشار الإنترنت والهاتف النقال ووسائل الإعلام الجديدة زادت الهوة عمقا بين المدينة والريف في الدول العربية، كما اتسعت المساحة بين الحاكم والمحكوم. كما زادت تبعية الإعلام العربي في ظل العولمة إلى كبريات الصناعات الإعلامية والثقافية في العالم، وأصبحت معظم الوسائط الإعلامية في الوطن العربي عبارة عن صناديق بريد تستقبل وتوزع ما يرد من وراء البحار. وعلى حد قول إغناسيو راموني فإن الفضاء الإعلامي في الألفية الثالثة أصبح فضاءً ملوثا يتعرض باستمرار وبدون انقطاع لعدوى التسمم بالأكاذيب والتلوث بالشائعات والتشويه والتحريف والتلاعب. فالأمر إذن، يتطلب تنقية البيئة الإعلامية وتعقيم الإعلام من احتكار حق التعبير ومصادرة حرية الفكر والرأي والصحافة من قبل حفنة من المجموعات الإعلامية العملاقة.