13 سبتمبر 2025

تسجيل

في ذكرى رحيله.. من يؤبن عرفات؟

15 نوفمبر 2012

انهت السلطة الفلسطينية أمس برنامجا أعدته ونفذت فعالياته لإحياء الذكرى الثامنة لرحيل عرفات – رحمه الله - وأعطت بذلك الانطباع بأنها الأخلص للرجل والأولى به والمعنية بذكراه.. وهنا – من وجهة نظري - إشكال حقيقي يجدر تفصيل القول فيه ؛ هذا الإشكال أتحدث عنه لا لعداوة مع أحد ولا لتجريح أحد ولا مشاركة في حملة على أحد لسبب أو لظرف أو لموقف أو لدافع ما.. ولكن لأن تركة عرفات السياسية والوطنية والثورية دفع ثمنها كل فلسطيني وكل من دعم القضية الفلسطينية وكل من ضحى من أجل فلسطين حتى صارت حقا وامتيازا وطنيا عاما بقدر ما صار عرفات نفسه رمزا وطنيا وشخصية عامة.. للأسف أن هذا الميراث الذي تركه الراحل لشعبه وأمته قد صار من بعده في يد فئة أحاطت به وبمشروعه ورؤيته في آخر حياته وواجهته وضايقته واقتطعت صلاحياته وأعانت على حصاره، ثم مات وهو عليها غاضب ولها ولمسلكها كاره ورافض! لما مات مشى هؤلاء في جنازته ولطموا الخدود وشقوا الجيوب كما لو كانوا عصبته فصاروا بذلك وٌرَّاثه وأولياء دمه.. ولما انتهى الحلم الذي عاش ومات على أمل تحصيله والفرص التي صنعها بسعي الليل والنهار والمواجهة والعناد ودفع حياته ثمنا لها تحت أيديهم ضيعوها بألاعيبهم وتنازلاتهم فانهارت وها هي تنهار وتتبدد الواحدة تلو الأخرى..  وأرى أنني قبل التوغل في تفصيل القول حول ذكرى الرجل وتأبينه ومن يحق أو لا يحق له أن يتصدى ويتصدر ذلك.. أرى أن عليّ الاعتراف بأن الحديث في عرفات - رحمه الله تعالى – وادعاء الحرص على تركته يحمل من الحساسية والانفعال ما يحمله بالأخص في ذكرى وفاته، وبأخص الأخص عندما يصبح التزلف له والتقرب منه بضاعة الهالكين البائرين المتسلقين، وعندما يكون المتحدث عنه ممن لم يدّعوا يوما الفناء في حبه والهيام في مشروعه بل وكثيرا ما كتبوا في نقده والاعتراض على اجتراحاته وتنازلاته – مثلي –.  لكن للرجل صفحات مشرقات يمكن الدفاع عنها! والرجل قد مات – أو قتل – تحت الحصار! وقد انقلب هو ذاته في السنوات الثلاث الأخيرة على مشروعه وسلطته التي رأى أنها تحولت لهيئة وظيفية خاضعة لالتزامات ومقتضيات الاحتلال - فإن نبكيه فنحن صادقون لأننا نبكي الرجل الذي حول أجهزة السلطة إلى مقاومين يَقتلون ويُقتلون، وإن نؤبّنه فنحن صادقون لأننا نؤبّن الرجل الذي شكّل وموّل وسلّح كتائب شهداء الأقصى وكلّفها أن تقاتل جنبا إلى جنب مع إخوانها في حماس والجهاد والمقاومة حتى صار الدم والغاية والرؤية والمصير واحدا موحدا وطريقا بيّنا محددا للشعب الفلسطيني ولكل فصائله.. وإن نحتفي بذكراه فنحن صادقون لأننا نحتفي بذكرى مرحلة وإن قصرت زمنيا لكنها كانت خاتمة حياته ومليئة بالحرص على الوحدة الوطنية وحاشدة بمحاولات إخراج الشعب الفلسطيني من تحت السقوف السياسية المنخنقة التي اعترف هو أنه تسبب فيها.. وإن نحزن على الرجل فإننا صادقون ومنسجمون مع أنفسنا وقناعاتنا لأننا نحزن على رجل تخلى عنه أقرب أتباعه وعاندوه وواجهوه وارتبطوا بمشاريع خارج وطنية وخارج ثورية، فلما رآهم كذلك لم يخضع لهم ولم يخنع لمؤامراتهم ولم يستسلم لتهويلاتهم وتهويناتهم بل طردهم وفضحهم وقلاهم وكرههم وحذر منهم وأبعدهم وربما لطم بعضهم..  هذه هي الفترة التي نبكيها ويبكيها كل مخلص، وهذا هو الرجل الذي نؤبّنه اليوم ويؤبّنه كل حر، وهذه هي مبررات الدفاع عنه وعن تركته.. ولهذا لا أجدني وأنا أفعل ذلك متزلفا كذبا ولا منفصما عن نفسي وقناعاتي التي عشت بها ولها وعليها.. فقد عارضناه يوم عارضناه وانتقدناه يوم انتقدناه وكتبنا ما كتبنا وخاصمناه ما خاصمناه على أساس واحد هو " الولاء لفلسطين وشعب فلسطين " ؛ فالحقيقة إذن واحدة ولكن الحال هو الذي تغير.. وهذا بالضبط هو الموضع الذي ينصبّ عليه اهتمامي في هذا المقال..  وأقول: إن الذين يؤبنونه اليوم من هؤلاء وإذا تجاوزنا ما يزعمون لأنفسهم من ولائه ومن حب وهيام فيه ونظرنا عوضا عن ذلك لنهايات ما وصلوا وأوصلوا قضيتهم وشعبهم إليه.. فإن جملة مساحات الفرق ودرجة الانحراف تصل إلى النقيض تماما لما كان عليه الراحل.. ولنسأل الأسئلة الافتراضية الآتية:  لو أن عرفات لا يزال حيا.. هل كان سيتجاهل رموزا كان يقود بها فتح والسلطة وكانت تمثل لديه قيمة وطنية وثورية كنبيل شعث وهاني الحسن (الذي توفي شبه مفصول من منظمته لرأي قاله واعتراض اعترضه) وأين فاروق القدومي وأين مروان البرغوثي.. أين هم منذ غاب عن الدنيا؟ ولماذا لم يعد لهم دور ولا قيادة ولا تأثير على مواقف وقرارات فتح والسلطة؟  ولو أن عرفات لا يزال حيا.. وهو الذي رفعوا في وجهه شعار " السلطة المطلقة مفسدة كاملة " اعتراضا عليه واستقطاعا لسلطاته.. هل كان سيسمح أن تجتمع (رئاسة السلطة، ورئاسة المنظمة، ورئاسة فتح، ورئاسة الدولة، في شخص واحد هو رئيس رئاسات الشعب والقضية والحاضر والمستقبل الفلسطيني " عباس "؟  ولو أن عرفات لا يزال حيا هل كان ليبقي على كل هذا التنسيق الأمني " أو التعاون المخابراتي " المجاني مع الاحتلال رغم تعطل التسوية واستمرار الاستيطان واستكلاب المستوطنين وتهويد القدس وتهديم أحيائها؟ وهل كان سيسمح بهذا التعقب الدموي الذي يطاول المقاومة ويستأصل شأفتها؟ وهل كان سيسمح لأحد مهما ادعى " هذا الأحد " لنفسه من وطنية وواقعية أن يجاهر ليل نهار بأنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة وأنه لا يملك الحق في سكنى صفد أو يبنا أو عكا أو الجورة؟  ولو أن عرفات لا يزال حيا هل كان سيسمح لأشخاص اعتبروا منذ أول يوم من محاسيب واستقطاعات " أمريكيا تحديدا " أن يتصدروا السلطة وأن يحتلوها وأن يملكوا صادرها وواردها وإفقارها وإغناءها وعلاقاتها وتنسيقاتها وتسييراتها وتسهيلاتها وموازنات الفصائل المنضوية والمسيّرة داخل المنظمة؟  ولو أن عرفات لا يزال حيا ومع أنه اختلف مع فصائل المقاومة واستهدف حماس والجهاد في حدود تقبلتاها واحتملتاها ودون أن يفرط في شعرة معاوية - رضي الله عنه - هل كان سينساق في حملة على المقاومة تصل إلى الانقسام الدموي الذي تعاني منه القضية الفلسطينية كلها اليوم؟ وهل كان سيسمح بتفكيك كتائب شهداء الأقصى – الفتحوية – وأن تباع أسلحتها وأن يتحول بعض رموزها لممثلين من الدرجة العاشرة على مسارح مدينة جنين؟  آخر القول: ميراث عرفات ليس منصبا ورثه الوارثون، ولا مالا استولى عليه الشاردون، ولا هو ادعاء يدعيه المدعون، وهو لا يتأتى بالقرابة النسبية ولا بالصداقات الشخصية، ولا حتى بمجرد المشاركة الحزبية.. ولكنه بإحياء ما مات عليه وبحفظ وصون ما دفع حياته ثمنا له، بالتالي فعلى كل الفلسطينيين أن يؤبنوه وأن يبكوه.. اللهم ما عدا أولئك النفر الذين صيروا مشروعه وإنجازاته مسخة وعيبة في وجه التاريخ العربي وسبة في وجه القضية الفلسطينية..