07 أكتوبر 2025
تسجيلتكون في سيارتك تسير إلى وجهتك في هدوء، وإذ بأخرى وفي حركة – غالباً غير مقصودة – تقترب منك بطريقة غير سليمة، فتضطر فجأة إلى التوقف أو تغيير مسارك، لتشعر بنوع من الارتباك وربما خوف يعقبه توتر. ثم بعدها بلحظات، قد ينتهز الشيطان فرصته، فينفخ في الموقف، فتثور ثائرتك، لتجد نفسك تندفع نحوه تريد رد الصاع صاعين بصورة وأخرى، إما باستخدام سيارتك أو محاولة ايقافه في عُرض الشارع !. تنزل إليه أمام بقية الناس وتتفوه في وجه صاحب تلك السيارة بكلمات غاضبة غير محسوبة، وتكون أنت حينها – غالباً أيضاً – في غير وعيك المعتاد، بل ربما تتجاوز الألفاظ لتتطور الأمور إلى استخدام اليد وما قد ينتج عن ذلك من أفعال غير محمودة.. لاحظ أن كل تلك المشاهد تحدث أمام الآخرين، إلى أن تنتهي بتدخل الناس أو وصول الشرطة، أيهما أسبق !. لو تتأمل المشهد مرة أخرى بعد ساعات من الحدث - وليس عندي شك - أنك ستُصدم منه، وكيف أن رد فعلك كان عنيفاً تجاه أمر كان بالإمكان تجاوزه في ثوانٍ معدودة، بل لم يكن هناك أي داع ليحدث كل ما حدث. وعن هذا الموقف ومثله كثير كثير، حديثي اليوم، وهو يحدث لكثيرين منا في أوقات عديدة. منا من يتجاوزه في ثوانٍ معدودة، ومنا من يلتصق به ويتأثر بتبعاته حين من الدهر، قد يقصر أو يطول. التسامح فعل راقٍ من أرقى الأفعال والأعمال التي تشد أزر المرء وتثبت قلبه، بعد صدق الإيمان بالله، هو فعل التسامح أو العفو عن الآخر في حياة، لا يجب أن ينتظر أحدنا أن يشرق عليه يومٌ يكون بلا كدر ولا تعب أو ألم، بل بدلاً من ذلك، عليه أن يتعلم الصبر والتصابر، إذ بهما سيشتد إيمانه وتقوى إرادته، ويفهم بشكل عميق حقيقة الحياة الدنيا. إن خُلق التسامح والعفو والترفع عن مفهوم رد الصاع صاعين بغير وجه حق، أو في غير موضعه، قيمة راقية عالية قلما تجدها في البشر. وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – قال:" اسمح، يُسمح لك". وفي هذا الحديث بيان لقيمة فعل التسامح بين الناس، وأهمية الحث على التساهل في التجاوز عن الأخطاء، وأثر ذلك في ابقاء علاقات الود والصفاء والمحبة بين الناس. من المهم جداً هاهنا الإدراك التام بأن التسامح والتجاوز عن الأخطاء والهفوات، ليس ضعفاً أو تنازلاً عن حق أو خوف وما شابه، إنما هو قوة وشجاعة، وفوق ذلك كله هو خُلق رفيع وطيب راق، يدفع بالقلب إلى العمل بكفاءة، عبر إبعاده عن مواطن الخلل والعلل التي تتكاثر يومياً في زمننا هذا. إن النفس المتسامحة أو روح التسامح التي ندعو إليها، هي تلك الروح التي نرغبها أن تسود حياتنا أو يكون التسامح منهجاً أو طريقة وأسلوب حياة، وليس رد فعل لواقعة مؤقتة عابرة. فحين تتسامح مع المخطئ مثلاً أو من يرتكب حماقة أمامك أو معك، فأنت لا تتنازل عن حقك هنا، بل تتعالى وتترفّع عن السقوط في الحماقة أو الخطأ الذي يحدث، ولأن هذا الترفّع أيضاً هو نوع من التنفيس عما يحدث بداخلك من مشاعر غيظ تجاه الذي يقع أمامك أو معك، لكنه تنفيس راق شامخ، وليس ذاك الذي يترجمه البعض على شكل عراك بالأيدي أو لعنات وشتائم. إن التسامح مع الغير، مثلما أنه قمة في الأخلاق وسمو في التعامل، هو في الوقت نفسه يمكن اعتباره نوعاً من الجدال الصعب مع النفس، والضغط عليها لعدم الرد بالمثل، فإنّ النفس التي بين جنبيك في مثل تلكم المواقف العصيبة تبغي الرد وبقسوة، ورد الصاع صاعين أو أكثر، فهكذا هي النفس البشرية، وقليل من يقدر على لجم نفسه وتوجيهها حال وقوع الأخطاء والتفاهات معه. حين يغيب العقل مؤقتاً ما يحدث غالباً في مواقف حياتية كثيرة مثيرة، أن الناس ترتكب أفعالاً لا يتنبهون لها إلا بعد فوات الأوان، حين يغيب العقل مؤقتاً في تلكم المواقف وتسيطر النفس الشريرة على الموقف وتوجه دفة الأحداث. وبسبب تلك السيطرة الشريرة المؤقتة وغير الواعية، تمتلئ السجون بالموقوفين أياماً أو أسابيع وبعضهم إلى أشهر وسنوات، وهم في حسرة وندم لا يوصفان. إن الغضب والعصبية أو القسوة والشدة في التعامل مع الأحداث الحياتية اليومية، من شأنها بكل تأكيد أن تضعف عضلات القلب، كما يقول السادة الأطباء، وتتسبب في فتح أبوابه لكثير من العلل والأمراض البدنية، حيث يندم المرء على كل لحظة غضب أو إثارة لم يكن لها داع أو معنى، يوم أن يقع ضحية لأزمة قلبية أو سكتة دماغية أو غيرهما من علل وأمراض – عافانا الله وإياكم منها – وهو ما يدفع بنا إلى الحذر من اتخاذ الغضب أو تغييب العقل منهجاً أو طريقة حياة في التعامل مع مفردات هذه الحياة، بل على المرء منا التسامح والترفّع وعدم الغضب، بل نحاول أن نسعى لتلك النفس المطمئنة المتفائلة والواثقة بمعية الله معها في كل موقف، كما دعانا إلى ذلك خير الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من نصح وأرشد أمته إلى الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة. التسامح كخلاصة للحديث، إن كان عند أحدنا منهج حياة، فلابد أن نفسه من تلك النفوس المتفائلة الطيبة. وهذا التفاؤل الذي أدعو إليه دوماً في كتاباتي وأحاديثي مع الناس، أمره طيب محبذ ومحمود، لا يأتي إلا بخير، ويُنصح به كل أحد يدرك ويفهم معنى أن تكون متفائلاً طيب النفس جميلاً.. والله بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.