30 أكتوبر 2025

تسجيل

تركيا ومواجهة الضغوطات الاقتصادية

15 أكتوبر 2018

أثار قرار إحدى المحاكم التركية الإفراج عن القس الأمريكي "برانسون" ردود فعل مختلفة، بين مدافع عن أردوغان ومهاجم له، لا سيما مع تزامن حدث الإفراج عن القس مع قضية تصفية الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول. وقد حاول الإعلام الموالي لدول الثورة المضادة استغلال حدث الإفراج عن القس الأمريكي للتغطية على حدث اختفاء وتصفية جمال خاشقجي، والإيحاء بوجود صفقة تركية-أمريكية، عنوانها العريض خاشقجي مقابل "برانسون"، ووصف الإفراج بالفضيحة السياسية لأردوغان. لكن المتتبع لأزمة العلاقات الأمريكية-التركية على خلفية القس "برانسون"، سيستنتج أن إطلاق سراح القس بدأ الحديث عنه منذ مدة؛ حيث كان موعد نظر المحكمة في القضية معروفا منذ فترة، وكان غالبية المتتبعين يعتقدون بإطلاق سراح القس الأمريكي؛ وهو ما يستشف من تراجع حدة التصريحات والتصريحات المضادة بين المسؤولين الأتراك والأمريكيين منذ مدة. فالرئيس الأمريكي ترمب حاول استغلال تراجع الليرة التركية لفرض تدابيره الاقتصادية بحق تركيا، في حين حاول أردوغان استغلال تلك التدابير الأمريكية للتغطية على الأسباب الحقيقية لأزمة العملة المحلية، وهي الأزمة التي تعود لما قبل فرض ترمب لتدابيره وعقوباته الاقتصادية ضد تركيا. وفي اعتقادنا أن إقدام المحكمة التركية على إطلاق سراح القس الأمريكي كان بطلب حكومي، وإن غلف بغلاف استقلالية القضاء التركي، ويكفي الاستشهاد هنا بحادثة الإفراج عن جنديين يونانيين بوساطة قطرية إبان فترة اندلاع الأزمة التركية-الأمريكية حول القس المحتجز. وتركيا ليست بدعا من مجموعة من الدول، ومن بينها بعض الدول العظمى، فعندما تتعرض المصالح الاقتصادية للدول للخطر، لابد من التدخل وتقديم تنازلات حفاظا على المصالح العليا للبلد. في سنة 2010 قام القضاء الفرنسي بالإفراج عن الإيراني "علي وكيلي راد" المدان بالمؤبد لاتهامه بقتل "شهبور بختيار" سنة 1991 أسابيع قليلة بعد الإفراج عن "أنيس النقاش"، وقد جاء الإفراج عن "علي وكليلي" أياما معدودة بعد إفراج السلطات الإيرانية عن الأستاذة الفرنسية "كلوتيلد رييس" التي اعتقلت في إيران بتهمة التجسس، بعد مشاركتها في المظاهرات الرافضة لإعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية الإسلامية. وفي أكتوبر 2007 رفض القضاء الفرنسي متابعة وزير الدفاع الأمريكي الأسبق "دونالد رامسفيلد" بتهمة التعذيب، أثناء زيارته لفرنسا؛ وتذرع القضاء الفرنسي بالحصانة القضائية لرؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية، بالرغم من أن وزير الدفاع لا يحظى بموجب القانون الدولي بنفس الحصانة، وبالرغم من أن "رامسفيلد" لم يعد في تلك الفترة يتقلد أي مسؤولية حكومية. وفي سويسرا قام القضاء سنة 2008 بالإفراج عن نجل القذافي "هنيبعل" وزوجته، بعد القبض عليهما بتهمة الاعتداء على خادميهما، وقد جاء الإفراج نتيجة للضغط الليبي الذي وصل حد التهديد بوقف إمدادات النفط الليبي عن سويسرا، والذي يعتبر المصدر الرئيسي لسويسرا من هذه المادة. بل إن السلطات السويسرية قامت بتعويض نجل القذافي بأزيد من مليون دولار، بسبب الصور التي نشرتها له الصحافة أثناء الاعتقال. وتبقى قضية صفقة اليمامة أشهر قضية على تداخل السياسة والقضاء، ففي سنة 2006 قام المدعي العام البريطاني بإغلاق التحقيق في تلقي المسؤولين السعوديين لرشاوى مالية كبيرة، وكان من بينهم السفير السعودي في بريطانيا في تلك الفترة بندر بن سلطان، والذي تلقى بحسب الإعلام البريطاني رشاوى مالية بلغت ملياري دولار، مقابل شراء السعودية لأزيد من 100 طائرة حربية بقيمة مالية بلغت 56 مليار دولار. وقد برر النائب العام البريطاني قرار إغلاق التحقيق بأسباب تتعلق بحماية الأمن القومي، بعد تهديد السعودية بوقف تعاونها الأمني مع بريطانيا في مجال مكافحة الإرهاب، لكن السبب الحقيقي يعود لتهديد السعودية بإلغاء الجزء النهائي من الصفقة، والمتعلق بشراء 72 طائرة حربية، والتي تبلغ قيمتها ملايين الجنيهات، في حال استمرار الحكومة البريطانية في تحقيقات الفساد في الصفقة. والخلاصة التي نصل إليها أن أردوغان هو سياسي محنك، هدفه الأساسي هو حماية مصالح تركيا، وتقديمها على ما سواها، وأنه شخصية برغماتية، يعرف متى يصعد ومتى يتراجع ويقدم التنازلات؛ فحين بلغت علاقته مع روسيا مستوى غير مسبوق من التوتر بعد إسقاط الطائرة الروسية، قام بالاعتذار عن إسقاط الطائرة. وبعد تراجع الثورة السورية في جدول أعمال الدول الغربية، وقيام الولايات المتحدة بدعم أكراد سوريا، قام أردوغان بإعادة ربط العلاقات مع روسيا وإيران بشكل وثيق، كما قام خلال الأزمة مع الولايات المتحدة بتقوية العلاقات مع ألمانيا والدول الأوروبية، بعد سلسلة من التوتر في تلك العلاقات، خصوصا مع ألمانيا. فمتى يتعلم القادة العرب من نظرائهم الأتراك كيفية الدفاع عن مصالح شعوبهم وأوطانهم؟ المصدر: الجزيرة