17 سبتمبر 2025
تسجيلبعد (3) شهور من بدء التطبيق الفعلي لخيار شعب جنوب السودان بالانفصال، جاء رئيس الدولة الوليدة إلى الخرطوم في زيارة رسمية وتم استقباله كرئيس دولة مستقلة.. البعض قال إن سلفاكير ميارديت رئيس الدولة الجديدة (جمهورية جنوب السودان) جاء مهرولا ومستنجدا، بعد أن جاءت الفكرة وراحت السكرة، أو فرحة فصل الجنوب.. البعض الآخر قال إن الرجل جاء بعد أن رتّب علاقاته جيدا مع التمرد سواء في دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق.. الفريق الأول يرى أن سبب (الهرولة) أن الظروف الضاغطة التي تحيط بالدولة الجديدة، فالمجاعة كشرت عن أنيابها، فضلا عن الفلتات الأمنية وانشقاقات الجيش الشعبي وشبح جيش الرب اليوغندي.. إرهاصات المجاعة تبدّت في نقص المواد الغذائية والغلاء الطاحن للمواد الاستهلاكية.. السودان يمثل طوق النجاة الوحيد لدولة سلفاكير عبر تجارة السلع الاستهلاكية عبر الحدود والتجار الشماليين الذين لا غنى للدولة الجديدة عنهم.. لاشك أن سلفاكير في رأيهم منزعج من المظاهرات التي اجتاحت واو معبرة عن سخطها إزاء الأوضاع المعيشية ومطالبة بالانضمام إلى الشمال مرة أخرى، كما أن سلفاكير يريد أن يطمئن على انسياب تصدير النفط عبر الشمال، فالنفط مصدر رئيسي لدولته إن لم يكن الوحيد.. أما الفريق الثاني فيرى أن سلفاكير غير منزعج لا للمجاعة ولا للفلتات الأمنية، معتمدا على قبضة الجيش الشعبي الحديدية التي تفوقت على قبضة جيش هتلر في ألمانيا، أما المعارضون السياسيون في الجنوب فهو قادر على استخدام سياسة العصا والجزرة معهم ببراعة وما حدث مع لام أكول أجاوين الذي سبق أن انشق عن الحركة الشعبية وكوّن حزبا جديدا، أكبر دليل حيث استطاع سلفاكير أن يأتي به إلى (حظيرة) الحركة الشعبية وليس من بعد لام أكول معارض يمكن أن يشار إلى تأثيره في مجريات الأحداث في الجنوب.. كذلك فإن سلفاكير جاء إلى الخرطوم وهو يحمل أوراق ضغط قوية، فالتمرد الذي يؤرق منام الشمال في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان تحت سيطرته ويأتمر بأمره، ولم يأت الرجل مهرولا ولكن جاء في رأيهم ليجس النبض وينبه ويذكر الشمال بتلك الكروت المهمة. الثابت أن علاقات قوية جدا تربط الدولة الجديدة بالولايات المتحدة الأمريكية، ويرجح البعض أن واشنطن منزعجة لأنباء المجاعة في الدولة الجديدة فضلا عن عدم الاستقرار والفلتات القبلية.. يقولون إن في أمريكا مجموعتان الأولى ترى أن سياسة احتواء السودان لم تجد ومع ذلك يجب المضي في هذه السياسة وهذه المجموعة بقيادة سوزان رايس المندوبة الأمريكية لدى مجلس الأمن، أما المجموعة الثانية تتفق مع الأولى في فشل سياسة احتواء السودان لكنها ترى التعامل معه على الأقل لضمان أمن واستقرار دولة الجنوب حيث إن أمنها واستقرارها مرتبط بالدولة الأم. وعلاقات واشنطن بجوبا مرتبطة في المحصلة بعلاقات تل أبيب وجوبا، ربما يقول البعض إن من حق جنوب السودان إقامة علاقات مع إسرائيل، طالما هناك دول عربية تقيم علاقات معها!!. لكن ما يزعج حقا أن علاقات جنوب السودان مع إسرائيل تركز على التعاون العسكري والمخابراتي فقبل أن يكتمل افتتاح سفارة إسرائيلية في جوبا أفتتح مكتب للمخابرات الإسرائيلية هناك.. لا أحد لا يعلم الدعم العسكري الذي قدمته "إسرائيل" لمتمردي الحركة الشعبية عبر إحدى الدول الإفريقية المجاورة، وتكفي الإشارة إلى ما ذكرته صحفية أمريكية بشأن نجاح الحركة الشعبية في تخزين كمية كبيرة من الأسلحة العسكرية المتطورة من دبابات وغيرها، وهي كمية كفيلة بأن تكسر معايير التوازن بين الجنوب والشمال، مؤكدة على وجود أموال غربية تقف وراء مشتريات الأسلحة في جنوب السودان، وأن هناك تدخلاً من جانب عناصر "إسرائيلية" في عدد كبير من تلك الصفقات، وهذا أيضًا ما أكدت عليه صحيفة هآرتس العبرية يناير من العام 2009م في تقرير خاص أعده الصحفي يوسي ميلمان تحت عنوان "القراصنة يخطفون سفينة أسلحة يمتلكها إسرائيليون". عموما نرى أن مخرجات زيارة سلفاكير مالت إلى التعميم واللغة الدبلوماسية الفضفاضة ومازالت المنطقة الرمادية في علاقات البلدين تراوح مكانها.. سلفاكير يقول في المؤتمر الصحفي في ختام زيارته التي حازت على احتفاء لا يتناسب مع هذه المخرجات: (إن الزيارة بداية لانطلاقة جديدة لعلاقات ممتازة بين البلدين)!!. سلفاكير أضاف: (أن المباحثات واللقاءات التي جرت بحثت كل القضايا العالقة)، معتبرا أن (أجواء وفاقية سادت)!!. لا أعتقد البتة أن زيارة كهذه لم تستمر أكثر من (24) ساعة بما فيها ساعات النوم والراحة يمكن أن تكون قد ناقشت كل القضايا العالقة، والتي أصبحت عالقة لأن (5) سنوات لم تتمكن من حلها في ظل حكومة واحدة ودولة واحدة؟! الكثيرون مصابون بخيبة أمل عظيمة لأنه لم يكن هناك حديث صريح بشأن الحلو في جنوب كردفان وعقار في النيل الأزرق وبالتالي لم يلتزم سلفاكير على الأقل بشكل صريح بعدم دعمهما أو إدانة ما يقومان به من حرب على الدولة وقواتها المسلحة وكأن الأمر لا يعنيه!! يبدو لي أن سلفاكير مازال محتفظا بإستراتيجية الغموض.. فهو رجل يميل إلى العزلة، ولا يمكن الخروج بأي انطباع في حالة محاولة قراءة تقاسيم وجهه الجامدة والصارمة فهو بخيل تجاه إبداء أي مشاعر لمحدثه فمن الصعب معرفة ما إذا كان سعيدا أو غاضبا.. لدي شك في أن الرجل مدرك تماما لحجم المشاكل والأزمات التي تمسك بتلابيب دولته الوليدة، فضلا عن أنه يفتقد إلى فرقة ماسية أو عقل سياسي جمعي يمكن أن يقدم له ما يخرج الدولة الوليدة إلى بر الأمان.. هناك من فسر من قبل مواقف سلفاكير من الانفصال، بأنها (طموح) شخصي، وأنه ظن أو زيّن له بأن أمامه فرصة (تاريخية) ليعلن دولة جديدة، وليظهر بمظهر (البطل) الذي حقق (الاستقلال) لشعبه.