10 سبتمبر 2025
تسجيلفي لقاء طويل رائع مع المفكر الجزائري عبد الرزاق مقري حول طوفان الأقصى - أنصح الاستماع إليه لمن أراد صورة واضحة لما يجري الآن في غزة - قال عبارة، ربما هي سر التحول الهائل الحاصل بالعالم تجاه القضية الفلسطينية، وهو عنوان هذا المقال.. ثبات غزة، حالة أسطورية. وهذه حالة نادرة تستوجب منا التوقف قليلاً وتأملها طويلا. ثبات غزة، بمجاهديها ورجالها ونسائها وأطفالها، رغم الشدائد والأهوال والآلام، لابد وأنه يدفعك لاستحضار مشاهد مؤلمة ماضية من تاريخنا مثل سقوط الحواضر الإسلامية أمام المغول الهمج، ثم الأندلس وقصص محاكم التفتيش والحروب الصليبية، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين ومآسي المسلمين على يد الاستدمار الغربي، الذي وإن خرج من عالمنا العربي والمسلم، إلا أنه أبقى كلابه المسعورة المتوحشة من الصهاينة، يهوداً كانوا أم غيرهم من العرب والفرس والترك والهندوس وغيرهم من أهل الوثن والحجر والشجر. لكن الأمر الملحوظ ورغم كل تلكم الأهوال والشدائد التي نزلت على الأمة عبر تاريخها الطويل، إلا أنها كانت تنهض بصورة وأخرى، ولم تهلك أو تفنى وتندثر كبقية الأمم والحضارات الغابرة. فما كنا نقرأ في كتب التاريخ والسير عن أولئك المتوحشين ضد المسلمين، على اختلاف معتقداتهم وأهدافهم، صرنا اليوم نعايشها لحظة بلحظة في غزة الأبية. صفقة القرن ما كنا نستغرب منه إذن ونحن نقرأ في تضحيات الأولين، صار يتكرر الآن، بل أصبح متجسداً واقعاً أمام أعيننا وأمام كاميرات وشاشات وكافة وسائل التواصل والإعلام حول العالم. ثبات غزة، ثبات أسطوري أفشل كل مخططات الغرب والصهاينة ومعهم كل المطبعين العرب، بعد أن كانت القضية الفلسطينية تسير بشكل متسارع نحو تصفية نهائية، وكانت ستنتهي وتتحقق أحلام من خططوا طويلاً لما يسمى بصفقة القرن، كي تقر أعين الصهاينة أولاً، وتتحقق نسبة كبيرة من أحلامهم ومشاريعهم التوسعية، ومن ثم تقر أعين المطبعين بعد ذلك وتنتهي القصة المزعجة لهم منذ أكثر من سبعة عقود، وليحمل بعدها الأمريكان أمتعتهم مغادرين المنطقة - إلى غير رجعة - لاعتقادهم بأن وجودهم صار غير ذي جدوى، بعد أن تكون المنطقة قد هدأت بتصفية القضية، وتولي بيادق صهيونية الصنع إدارتها، لتتفرغ هي للعملاق القادم، أو هكذا التصور الأمريكي الغربي، ويُقصد به الصين، أو التحالف الصيني الروسي. إذن ثبات أهل غزة بشكل عام، واستمرارهم في التصدي لجحافل الجيش «الأكثر أخلاقية في العالم» بل والمبادرة بالهجوم أحياناً كثيرة، أفشل مخططات ومشروعات كلفت خزائن بعض الدول، مليارات الدولارات وسنوات من العمل والتخطيط أو التآمر إن صح التعبير. حالة سُننية لم يدر بخلد أي أحد من أولئك المتآمرين أن تكون للمقاومة بقية قدرة وطاقة للصمود والبقاء، بعد اعتداءات الصهاينة المتكررة منذ انسحابهم من غزة في 2005 وأهمها في العصف المأكول 2014 ثم حارس الأسوار في 2021 لتهدأ بعدها غزة لعامين تقريباً، حتى ظن المتآمرون أن الإنهاك قد أصاب المقاومة، وبالتالي هي فرصة لتسريع إجراءات التصفية، لكن تتدخل الإرادة الإلهية دوماً، بعد أن يكون عباده المخلصين قد اتخذوا كافة الأسباب لكنها لا تكفي لإحداث الفرق أو نتيجة مؤثرة. فكان السابع من أكتوبر 2023 ليكون هذا اليوم بداية حالة كما أسماها الدكتور مقري «حالة سُننية « في معرض تحليله للأحداث، حيث تبدأ بعد ذلك تتكشف الكثير الكثير من الأمور، هي التي نعيشها الآن منذ ذلك التاريخ المجيد. إن ما يحدث اليوم في العالم بأسره من فضح وكشف للرواية الصهيونية التي جعلت العالم يصدقها طويلاً، هو أمر لو أنفقنا نحن المسلمين ملايين الدولارات في الدعايات والإعلام المضاد لكشفها وإقناع الآخرين برواياتنا الحقيقية، ما نجحنا ولا استطعنا تحقيق بعض الذي تحقق بعد طوفان الأقصى. لماذا؟ لأن الثمن لم يكن مليارات الدولارات أو اليوروات أو غيرها من العملات الصعبة، بل كان هو الدم، والروح، والثبات. وهي كلها عوامل أعطت صدقية للرواية الفلسطينية الإسلامية، وكشفت زيف الرواية الصهيونية الخبيثة. انكشاف الصهيونية والنفاق الغربي ما يحدث منذ السابع من أكتوبر الفائت، أزاح الستار عن ظلم الصهيونية وزيف ادعاءات المظلومية، وانكشف وجه الغرب الحقيقي القبيح، الذي كان مغطاة بوابل من قيم ومبادئ خادعة عبر مؤسسات ووسائل إعلام وغيرها، وهذا ما دفع بمئات الألوف من غير المسلمين إلى الشوارع، وفي عقر دار العالم الغربي، احتجاجاً أولاً على رضوخ حكوماتهم ومؤسساتهم الطويل للفكر الصهيوني، الذي أدى إلى الأحداث البشعة بحق مدنيين من أطفال ونساء في غزة كإحدى نتائج ذلك الرضوخ، ثم انتشار واسع ممتد مستمر للظلم حول العالم كنتيجة أخرى، إلى غير ذلك من نتائج ستنكشف مع الأيام. النقطة المهمة المطلوب التركيز عليها الآن بعد أحداث عشرة أشهر أسطورية، هي أهمية استيعاب المسلمين جميعاً لما يحدث في غزة، وضرورة استثمار الحدث للانطلاق بهمة وعزيمة وإيمان في أي مساهمة أو مشروع حول العالم يعمل على تفكيك النظام العالمي الحالي، الذي هو نظام غربي استعماري تم وضعه لخدمة مصالح الغرب أولاً وأخيراً عبر مؤسسات غير فاعلة، إلا إن أراد هذا الغرب تفعيلها خدمة لمصالحهم فقط ! النقطة الأخرى المهمة، هي المساهمة في تعزيز ثبات غزة، ودعم المقاومة بكل ما يستطيع الفرد منا القيام به. كل فرد منا، من بعد نية خالصة، وإيمان راسخ، ويقين لا يتزعزع بقرب نصر الله، يمكنه المساهمة بحسب قدراته وإمكانياته وظروفه المحيطة به في عملية التعزيز هذه، سواء بالمال، أو بالكلمة، أو بالصورة، أو غيرها عبر مؤسسات إعلامية، أو تشريعية، أو خيرية، أو غيرها من مؤسسات ومكونات مجتمعية عديدة. غزة.. إيمان أو نفاق أقول كخلاصة لهذا الحديث: لا يجب أن يتزعزع ثبات أهل غزة، مجاهدين أو حواضن شعبية، ولا يتم ذلك إلا عبر استمرار الدعم بكل الطرق والوسائل، لأن الاستمرارية تلك هي عامل حاسم في المرحلة الأخيرة من حرب التحرير التي انتظرناها طويلا. كما لا يجب أن ندع المجال للمشككين والمرجفين لنشر الأراجيف والأكاذيب. هؤلاء الذين (كره الله انبعاثهم) لا بد أن نكره نحن انبعاثهم أيضاً، لأن دخولهم في الأحداث، عامل مساهم إضافي يدعم الظلم الصهيوني المدعوم غربياً قبل كل شيء، باعتبار أنه مشروع غربي أولاً وأخيراً، يتطلب دعماً مستمراً لا يتوقف. وبالتالي، والحال كذلك، لابد من كشفهم وفضحهم أمام الملأ دون أدنى مجاملة، فالوقت لا يتسع للمجاملات والمهادنات. إنه وقت دعم الحق وإزهاق الباطل، والطرق باتت واضحة جليّة. من أراد الحق، فليلحق بأهله، ومن أراد الباطل فله ما أراد. إن الوقوف مع غزة أو ضدها، صار اليوم معياراً للتفريق بين الإيمان والنفاق، فلينظر كل منا تبعاً لذلك المعيار، إلى أي معسكر تقوده قدماه..