16 سبتمبر 2025
تسجيلالأزمة المالية توجب التفكير والتدبير خارج الأطر الحمائية والأنانية السائدة الأزمة المالية الجديدة ما تزال تعطي دول الاقتصادات الناشئة الحجة لترفع الصوت ضد دول الاقتصادات الكبيرة والراسخة باعتبارها متهورة ومستهترة في إدارة شؤونها، و"الناشئة" مثل الصين والهند والبرازيل، بذلت جهوداً جبارة للنهوض من صعوباتها وبناء اقتصادات ناشطة وناجحة، رغم ما تعانيه مجتمعاتها من شرائح فقيرة وما تحتاجه مناطق واسعة فيها من تنمية مستدامة، ولذلك فهي تقابل الانهيارات الحاصلة في الولايات المتحدة ودول الغرب بكثير من الغضب والتأنيب، وقد ذهبت رئيسة البرازيل ويلي روسيف إلى إدانة "الحماقة في إدارة الاقتصاد" لدى تلك الدول لأنها، بحماقتها هذه تتسبب بإبقاء الاقتصاد العالمي متقلباً وغير مستقر بل ملغوماً بأزمات قابلة للتفجر. إذا ذهب العالم إلى أزمة مالية جديدة، وريثة لأزمة 2008، فسيكون معصوماً هذه المرة أن مصدر الخطأ هو الحكومات وليس البنوك، وأن جشع المصرفيين ولد بلبلة المخططين، يعني أن كل أزمة ستخفي في طياتها أزمة بل أزمات أخرى، وبعد الأسبوع الأسود الذي عاشته الأسواق المالية، أصبح مؤكداً أن كل التطمينات التي ننافس رجالات الدولة هنا وهناك على إعلانها طوال الأعوام الثلاثة الماضية لم تكن سوى نسيج من أكاذيب وأوهام وتخمينات و "بالونات اختبار"، والواقع أن سوق النصائح والمعالجات أظهرت دائماً تفاقمات: فمن انتهج التقشف تعرض لانتقادات تدعوه إلى عدم خفض الإنفاق لئلا يقع في الركود، ومن اتبع معالجة هجومية بمزيد من الإنفاق أملاً في تحفيز الأسواق ما لبث أن وقع في العجز.. وهكذا، حتى لم يعد لرأي "الخبراء"، والمختصين ما يقولونه، تحديداً في ما يتعلق بالإستراتيجيات المفضلة سواء للتعامل مع الأزمات القائمة، أو لوضع الضوابط اللازمة لتفادي أزمات آتية. كانت أزمة 2008 جعلت كثيرين من حكوميين واقتصاديين ومصرفيين يقولون إن الاقتصاد العالمي بات في حاجة ماسة إلى "ثقافة" جديدة لترويض الاندفاع المنفلت إلى إبقاء الأسهم في ارتفاع ربحي مستمر، وليس معروفاً ماذا سيقال في تحليل أزمة 2011 وأي دروس ستستخلص منها، طالما أنها نتيجة لإخفاق الحكومات نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة ليس فقط بإدارتها الحالية وإنما إداراتها المتعاقبة، فهذه لا تحتاج فقط إلى ثقافة وإدارة أكثر إدراكاً لمسؤولية الدولة العظمى عن اقتصادها وماليتها، لكن أيضاً مسؤوليتها المباشرة عن الأوضاع الاقتصادية والمالية للدول الصديقة والحليفة، وقد تبين من خلال النقاش في مجلسي الكونغرس أن هؤلاء المنتخبين الأمريكيين لا يتورعون عن تغليب مصالحهم المحلية، السياسية والبزنسية، على احترام تلك "المسؤولية" لدولة يمكن أن تصادق أو تعادي دولاً تربط أو لا تربط عملتها بالدولار، ومع تعصبهم لإبقاء كل العملات مرتبطة بالدولار، لا يترددون في تهتيم كل حصانة أو ثبات يجب أن تتمتع بهما تلك الورقة الخضراء. لذلك يبدو انكشاف أمريكا وهبوط مستوى تصنيفها الائتماني كما لو أنه انكشاف للاقتصاد العالمي بمجمله، فكل الدول التي تودع أرصدتها السياسية في حماية الدولة العظمى ونظامها المصرفي واقتصادها الهائل، باتت اليوم أكثر إدراكاً بأن حاميتها مدينة وتقاوم الغرق وبدل أن تجد لديها الحماية أو تحقق أرباحاً وضمانات منها وصحة صارت تخشى أن تغرقها معها، ولذلك طرح السؤال: هل العالم لا يزال يأتمن أمريكا على أمواله؟ لا يبدو هنا أن بهلوانيي السياسة في الحزب الجمهوري مهتمون، كما لا يبدو مشاغبو "حزب الشاي" فضلاً عن بعض انتهازيي الحزب الديمقراطي مبالين بما تعنيه ألاعيبهم التشريعية للاقتصاد العالمي، في شأن الدول الأخرى – وشعوبها – إذا كان الجمهوريون والسابيدون يريدون مفاقمة العقبات والمصاعب أمام إعادة انتخاب باراك أوباما لولاية ثانية.. أليست "الأيديولوجية الأمريكية" هي التي دأبت على الإرشاد بضرورة فصل الاستقرار الحالي والاقتصادي عن دهاليز السياسة وقذاراتها. في أي حال، لم تتمكن "منطقة اليورو" بدورها من ترسيخ وضعها كملاذ آمن للرساميل، خلال العامين الماضيين قبل كم هائل من الكلام عن "الإصلاح" عقدت قمم ومؤتمرات ووضعت خطط وأعلنت تدابير، لكن كل ذلك لم يمنع إشعال الضوء الأحمر تلو الآخر، من اليونان إلى البرتغال، فإيطاليا وإسبانيا، والآن قبرص، مع احتمال خفض تصنيف فرنسا الائتماني، وصولاً إلى الشغب الاجتماعي في بريطانيا وقد ربطه بعض التحليلات بميزانية التقشف القاسية المعتمدة حالياً، ما الذي جعل الحكومات في هذه الحال المزرية من الإخفاق في إدارة الاقتصاد، وما الذي جعل دولاً منظمة وذات موارد ثابتة واقتصادات ومجتمعات حيوية تتأرجح عند حافة الإفلاس، وهل أن المخاطر تتعلق بإفلاسات رقمية أو جينية، وما الذي يفسر أو يبرر "حكمة" عدم المس بميزانيات التسلح مقابل الاقتطاع الموجع من ميزانيات الصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية.. من الواضح أن الأزمة ليست مالية فحسب، وإنما هي أزمة مفاهيم تتعارك فيها تطبيقات الاقتصاد الحر بحثاً عن نقطة استقرار أصبح من الصعب تصور أنها ستبلغها قريباً. إذا كان "الربيع العربي" فرص الإصلاح أو إسقاط الأنظمة عنوانين لهذه السنة العربية، فإن الأزمة المتجددة أعادت طرح موضوع الإصلاح في الغرب، فمتى أوباما يستعد لجعله محور حملته الرئاسية السنة المقبلة، ذاك أن تجربة ولايته الأولى علمته أن "نظام واشنطن" "معطل" وبحاجة إلى "الإصلاح"، كما أن تجربة الكونغرس لوضع تشريع رفع سقف الاستدانة علمته أن الاقتصاد لن يشهد تحسناً ما لم يكن الطرفان التنفيذي والتشريعي موحدي الأهداف بمعزل عن التباينات السياسية، لكن هذا إصلاح لا يتعلق بكيفية عمل المؤسسات بمقدار ما أنه يرتبط بإصلاح "أيديولوجية" النظام وعقليته، وطالما أن هذه "الأيديولوجية" تجيز للمشرع وحتى المنفذ أن يتصرف وكأن اقتصادات العالم وأمواله ملزمة حكماً بخدمة الدولة العظمى، فهل من إصلاح يرتجى؟ هناك دول خرجت من الحقبة الاستعمارية واستغلالاتها لتواصل العيش بما يفوق مواردها، وهناك دول تحررت من الاستعمار واستغلالاته لكنها بقيت تعيش دون مواردها وطاقاتها، لا الوفرة والجشع والتقدم الإداري والتكنولوجي ودولة المؤسسات مكنت أصحابها من تفادي الأزمات، ولا سوء الإدارة واستشراء الفساد ومحدودية الموارد علمت أصحابها وضع بلدانهم على طريق الأمان الاقتصادي والاجتماعي، الأزمة المالية المستمرة منذ 2008 توجب التفكير، وكذلك التدبير، خارج الأطر الحمائية والأنانية السائدة.