11 سبتمبر 2025
تسجيلفي القرآن الكريم ذكر للأنبياء وحالهم مع القضاء، وأوضح أمثلة على ذلك نراها عند نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام وعند سيدنا يوسف، وعند سيدنا داوود وابنه سليمان، هذا فضلا عن تناولنا لمجلس النبي – صلى الله عليه وسلم- للقضاء في مقالات سابقة. وإذا نقلنا أقوال المفسرين بنصها فسنجد كثيرا من التشابه، كما قد نقع على روايات إسرائيلية ليس لها أساس من الصحة، ومن ثم سأعتمد على القرآن ومحاولة فهمه بما صح من أحاديث فسرته أو أقوال لها سند من العقل والمنطقية.والجامع بين هذه القصص جميعا أن هؤلاء الأنبياء كانوا في مجالس قضاء إما متهمون أو قضاة، وسجل القرآن هذه المواقف كي نتعلم منها.ولنبدأ بإبراهيم الخليل – عليه السلام- حيث إن محاكمته على تكسير الأصنام دارت في السياق الآتي:أولا: التحري حيث السؤال عن المتهم الذي كسر الأصنام (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) ثانيا: اتهام إبراهيم: قالوا سمعنا فتى يقال له إبراهيمثالثا: إعلان محاكمة علنية، لا لإعلان العدل وإنما ليكون عبرة للناسرابعا: المحاكمة وفيها: - أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟- قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون(المداولة)، "فرجعوا إلى أنفسهم، فقالوا إنكم أنتم الظالمون"، وذلك بعبادة الأصنام، ولكن هم لا يطلبون العدل، وإنما يتبعون الهوى، "ثم نكسوا على رؤوسهم" - لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.وهنا تأتي اللحظة التي يستغلها إبراهيم للدعوة وفيها يقول:- "أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، يقول صاحب الظلال معلقا على هذه المداولة: "وحقاً لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الأولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلاباً على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟!ومن ثم يجبههم بعنف على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم"النطق بالحكم- قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ- قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيمالعدل الإلهي: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَتنفيذ العقوبةويروى أنه لما جعلوا يوثقونه وكان ابن ستة عشر عاما قال: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك، وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا [وأما من الله فبلى]وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما ألقي إبراهيم، عليه السلام، في النار قال: اللهم، إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك"وفي ابن كثير لما دَحَضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)، فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًا -قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم-ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض، وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد قط نار مثلها، وجعلوا إبراهيم، عليه السلام، في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد -قال شُعَيب الجبائي: اسمه هيزن-فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فلما ألقوه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، كما رواه البخاري، عن ابن عباس أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران: 173].إن هذه المحاكمة تظهر فيها أطراف ثلاثة:الأول: إبراهيم عليه السلام الذي صدح بالحق الذي أراد أن يدفع حياته ثمنا له.الثاني: أن ضعف الحجة غالبا يقابل بغشم القوة، وهذا ما اتضح جليا، حيث لما هزموا فكريا لجأوا إلى جاه سلطانهم.ثالثا: أن الرأي العام لم ينصر الضعيف، وكان أداة من أدوات الظلم، وهذا ينذر بكارثة على المجتمع بأسره الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وقد هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه".أما محاكمة سيدنا يوسف فلنا معها لقاء آخر إن شاء الله.