05 أكتوبر 2025
تسجيلكان انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة عام 2008 حدثا عالميا بكل المقاييس, وتأثيراته امتدت بعيدا إلى ما وراء الحدود الأمريكية. تضاعف إثر ذلك الانتخاب المتميز بتاريخيته الذاتية بسبب مجيئه في أعقاب حقبة أمريكية نيومحافظة بقيادة جورج بوش الابن اتسمت بالشراسة وإطلاق الحروب, من أفغانستان إلى العراق إلى الحرب ضد الإرهاب. تنفس العالم الصعداء يومها وانطوت صفحة مظلمة من السياسة الأمريكية المتطرفة, واستعد كثيرون لمنح الرئيس الجديد كل الفرص كي يمسح الآثار البشعة التي تركتها البوشية. لكن بعد مرور الفترة الانتخابية الأولى وما تلاها تبين كم كان سقف التوقعات آنذاك مرتفعا, حيث ظهر أوباما رئيسا باهتا, مترددا, خاضعا لضغوطات ولوبيات, ومخيبا لآمال الكثيرين. في كتابه الجديد "الأمة غير الضرورية: السياسة الخارجية الأمريكية في تراجع" (The Dispensable Nation: American Foreign Policy in Retreat – 2013) يحلل فالي ناصر, الدبلوماسي الأمريكي السابق في الخارجية, والأكاديمي في جامعة جون هوبكنز (من أصول إيرانية), معالم ذلك الفشل. يركز ناصر على فشل السياسة الأمريكية في أفغانستان وآسيا عموما, وينتقد بشدة الإستراتيجية "الأوبامية" في نقل ثقل الوجود والاهتمام الأمريكي من الشرق الأوسط إلى آسيا. ويناقش ناصر أيضاً فشل أوباما في تحقيق وعوده والارتقاء إلى مستوى الخطاب البلاغي الشهير الذي ألقاه في جامعة القاهرة وتوجه به إلى العالم الإسلامي. هناك الكثير مما يمكن نقاشه حول "الأوبامية" وفشلها, لكن تتوقف هذه السطور عند فشلها إزاء القضية الفلسطينية والاقتراب جديا من ملف الصراع العربي الإسرائيلي. في بداية حكمه واجه أوباما أجندة مزدحمة داخليا وخارجيا. آنذاك كانت أمريكا وأوروبا واقتصادات العالم الأول برمته تعاني من أزمة الانهيارات المالية المتتالية. وكانت القيادة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة محط تساؤل وشك عميقين من قبل الدائنين المحليين والخارجيين على حد سواء. وكان على أوباما أيضاً مواجهة شبكة معقدة من العلاقات المتوترة والغامضة مع روسيا والصين على وجه الخصوص, سيما وأن القراءات والتحليلات المستقبلية تشيران إلى صعود القوة الصينية في العقود القادمة ليس كمنافس شديد للقوة الأمريكية, بل ومتجاوز لها. وفي الجوار الأمريكي اللاتيني هناك الكتلة اليسارية التي تتمحور حول الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز مُقادة ببوصلة العداء لأمريكا. وعولمياً كانت هناك تحديات التدهور البيئي وهشاشة اتفاقات التجارة العالمية وعدد آخر من المعاهدات الدولية التي تواجه مآزق عدة يُحال تطورها إلى السياسة الانفرادية الأمريكية خلال حقبة بوش الابن. أما في الشرق الأوسط "الكبير" وجواره فقد كانت أقدام الولايات المتحدة تغوص في رمال حربين لا أفق للنجاح لهما, في أفغانستان والعراق, إضافة إلى الصراع العربي الإسرائيلي وتلاحق فشل التسويات, والآمال المتضخمة التي علقها العرب والفلسطينيون على قدوم أوباما. كل ذلك يتفاعل في مناخ دولي وشعبي عالمي أحد سماته الأساسية, في النظرة لأمريكا, هو ارتفاع مستوى الكراهية للولايات المتحدة في العالم إلى درجات غير مسبوقة. لم يضع أوباما مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في أولويات أجندته الدولية, في ظل ازدحامها بقضايا أخرى, وخشية التورط في رمالها المحرقة. والسياسة الأمريكية الشرق أوسطية لأي رئيس جديد, ديمقراطيا كان أم جمهورياً, تخضع لاعتبارات عديدة بعضها مرتبط بحسابات الترشح لفترة رئاسية ثانية, وجزء كبير منها مرتبط بضغط اللوبيات اليهودية ونفوذها. مع فوز أوباما كان من المتوقع استمرار أن تواصل تلك الاعتبارات اشتغالها, لكن كان من الطبيعي أيضاً افتراض بروز تفكير جديد يأخذ بالنظر بعض المكونات المُستجدة التي تجعل تطبيق السياسات والاعتبارات الماضية سبباً في تدهور أضافي ليس على صعيد شرق أوسطي فحسب, بل وأمريكي أيضاً. على الضد من ذلك الافتراض أعلن أوباما أن أولويته الشرق أوسطية والآسيوية ستكون أفغانستان وإيقاف الانهيار فيها, واتقاء انهيار شبيه في جارتها باكستان, ثم معالجة الوضع في العراق. وبالفعل فقد غرق أوباما وسياسته في وحل هذين الملفين, وما زال الملف الأفغاني بعيدا عن الحل, أما الملف العراقي فقد أغلقه بطريقة فاشلة, كانت تخلصا وتملصا أكثر منها حلا, حيث قدم العراق على طبق من فضة لإيران ونفوذها. في نفس الوقت, وكما كان متوقعا أجل بذل أي جهد جدي على جبهة الصراع العربي الإسرائيلي إلى الدورة الثانية لانتخابه, كيف يقلل من ضغوط اللوبي الصهيوني. رأينا أوباما في الفترة الأولى يتلقى الصفعة تلو الصفعة من نتنياهو في ملف الاستيطان. وقد بلغ أوباما إهانات مثيرة وعلى العلن إذ تراجع عن تصريحاته بضرورة وقف الاستيطان قبل استئناف أي مفاوضات, وفرض نتنياهو رؤية اليمين الإسرائيلي على الإدارة الجديدة. لكن حتى في الفترة الثانية واصل أوباما فشله وسياسة تخييب الآمال, حيث توقع كثيرون أن يتحرر أوباما من الضغوط السابقة, ويتصرف كرئيس لأقوى دولة, أو على الأقل يدخل التاريخ وقد أزال أثر الإهانات التي تلقاها من نتنياهو. ربما كانت الفكرة المباشرة التي ألحت على أوباما في فترة رئاسته الأولى عدم هي المغامرة ببعثرة رأس المال السياسي الذي بدأ به دورته في حل قضية قد لا تُحل وتسبب له خسارات كبيرة. وأن رأس المال السياسي الكبير الذي تربع عليه من البداية إضافة إلى الشعبية المحلية والعالمية من الطبيعي أن تمنحه ثقة كبيرة, وربما زائدة عن اللزوم, إزاء كيفية ترتيب أولويات سياسته الشرق أوسطية, وذلك أيضا في ضوء قلة خبرته في الملفات الدولية بشكل عام. بمعنى آخر سوف يشعر بأن "التفويض" العالمي الذي حصل عليه يمكنه من استثمار وقته وجهده في الملف أو الملفات التي يراها أكثر إلحاحاً, وسوف يستند على تفهم العالم لما يقوم به بسبب ازدحام أجندته والخراب الكبير الذي أورثه إياه جورج بوش. فشلت تلك الفكرة, وتبخر رأس المال السياسي ومعه الشعبية, وسيدخل أوباما التاريخ كأحد الرؤساء الباهتين, الذي يستقبله السود في جنوب إفريقيا بالمظاهرات وإلقاء البيض, عوض أن يروا فيه تجسيدا لبعض أحلامهم.