02 نوفمبر 2025
تسجيل"هذا الطيب أردوغان الذي تعرفونه لن يتغير".هذا ما قاله رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان عن نفسه أمام نواب حزبه يوم الثلاثاء الماضي خلال تناوله "انتفاضة تقسيم" الشعبية التي بدأت في 27 مايو الماضي. تختصر هذه الجملة الذهنية التي يتحرك بها أردوغان تجاه كل القضايا والتحديات التي تواجهه.وهي محصلة عشر سنوات من الإنجازات والانتصارات التي بلغت ثلاثة انتخابات نيابية وانتخابات بلدية مرتين وإيصال عبدالله غول إلى رئاسة الجمهورية إضافة إلى استفتاءين على تعديلات دستورية.وارتفعت صورة أردوغان مع إنجازات اقتصادية مهمة ودور تركي إقليمي متصاعد. غير أن أي سلطة لا يمكن أن تعتبر ذلك منّة على مواطنيها إلى الأبد.فتفويض الشعب للسلطة مرتبط بفترة محددة.وعندما يرى الناس أن أخطاء باتت ترتكب لا يمكن للحاكم أن يستمر في السلطة أو على الأقل يسعى لتعديل النهج المتبع تجاه القضايا المختلفة. لقد عكست انتفاضة تقسيم حقائق متعددة منها أنها انتفاضة شعبية وأنها شبابية.ولعل السمة غير الحزبية للانتفاضة فاجأت أردوغان لأنه يستطيع أن يهزم خصومه الحزبيين التقليديين بسبب الستاتيكو القائم من جهة والانقسام الحاصل في صفوف المعارضة من جهة أخرى.أما حصول انتفاضة أو اعتراض ليس له طابع حزبي فهو ما يربك السلطة ويجعلها غير قادرة على الإمساك بها لأنها لا جسم محددا لها.إن تنوع البنية المهنية للاحتجاج الشعبي في تقسيم وكل المدن التركية شكل عامل إحراج كبيرا لأردوغان شخصيا حيث انصبت كل الانتقادات على شخصه أكثر حتى من مشروعه.لقد شارك تقريبا كل فناني تركيا ولا سيما أبطال المسلسلات التي يتابعها المشاهد العربي وتحظى بإعجابه.وشارك في الاحتجاجات أطباء ومهندسون وأساتذة جامعيون وطلاب جامعات وصحافيون ومثقفون.وبرز موقف لافت لأورخان باموق حامل جائزة نوبل للآداب ينتقد أخطاء أردوغان. لقد كان ترسيخ الحريات التامة وإزالة كل المعوقات أمامها المطلب الرئيسي للمحتجين.وقد عكس المحتجون ولا سيما منهم الفنانون صورة تسلطية لرئيس الحكومة. لا شك أن انتفاضة تقسيم قد هشمّت بنسبة كبيرة هيبة رئيس الحكومة والضربة الأكبر التي تلقاها كانت من جانب حلفائه الغربيين في أوروبا والولايات المتحدة.ولقد بانت الشماتة واضحة في كل وسائل الإعلام الغربية واستدعت سجالا سلبيا بين وزير خارجية أميركا جون كيري ونظيره التركي أحمد داود أوغلو. مع ذلك فإن الكرة تبقى في ملعب رئيس الحكومة التركية.ولقد ارتكب خطأ كبيرا عندما نظر بتعال إلى المحتجين كما لو أنه لا يريد أن يفهم هواجسهم وأنه هو وحده الذي يملك مفتاح مستقبل الشباب والشعب. إن من أهم أسباب الثورات والانتفاضات والهبات أن الحكام يستغرقون في السلطة كلما استطالت.ولعل الفترة الطويلة التي ساد فيها أردوغان حتى من قبل أن يصل إلى السلطة باتت تشكل غشاء على رؤيته إلى وقائع الأمور.وبدلا من أن يفهم ويتفهم مشكلات الشباب وشرائح المجتمع المدني في الحرية والديمقراطية لم يجد ما يصف به المحتجين وكلهم شرائح مثقفة ومهذبة سوى أنهم لصوص وانكشارية مع تهديدهم بدفع الثمن.هكذا يتحول أورخان باموق وخالد أرغينتش(بطل مسلسل حريم السلطان) وكيفانتش تاتلي طوغ(مهند في مسلسل نور) وبطل وادي الذئاب وغيرهم إلى رعاع ومخربين وإلى أدوات في مؤامرة خارجية. لا أحد ينكر أن تركيا أصبح لها أعداء كثيرون .ولسنا في وارد شرح الأسباب منها التاريخي ومنها ما يتعلق بالطموحات التركية في أكثر من مكان.لكن اعتبار أردوغان معارضيه على أنهم غير موجودين وأنهم أدوات بيد مؤامرة خارجية يعكس خللا كبيرا في كيفية إدارة الدولة والشأن العام ويعزز الاحتقان ويوسع النقمة.كما يكرر أردوغان خطأه في اعتبار أن صندوق الاقتراع هو الحكم بينه وبين خصومه لأنه لو كانت كذلك فهو انتصر في انتخابات 2011 لكن الاحتجاجات ظهرت الآن. وأي انتخابات جديدة لن تحل المشكلة المتعلقة أساسا بالحريات وعدم تحويل الدولة إلى دولة دينية واحترام هواجس الأقليات المتخلفة وكلها تتصل بالذهنية لا بصندوق الاقتراع. وحدها الديمقراطية بما هي احترام الحريات الأساسية واحترام الآخر بكل هواجسه هي التي تحول دون انفجارات غير مرغوبة تحيل الأسطورة إلى فضيحة تاريخية كما حصل مع شخصيات كبيرة عبر التاريخ.ربما تعب أردوغان وبات ملحا لمنع تفاقم الأمور أن يتخذ القرار الصائب.