18 سبتمبر 2025
تسجيللن يخطئ مراقب دقيق للتاريخ التركي الحديث في القول إن البلاد تمر في مرحلة تحول نوعية قد تفضي في مدى ليس ببعيد إلى تحول جذري في طبيعة النظام العلماني وإن استمرت عناوينه نظريا في الدستور وبعض القوانين. لقد خاض أتاتورك عندما بدأ بتدابيره المثيرة حربا بكل معنى الكلمة مع المؤثرات الإسلامية في المجتمع. ومع أنه خاض حرب التحرير الوطنية وهو يتكئ في جانب منها إلى الروح الإسلامية في الأناضول حتى قال فيه الشاعر الكبير أحمد شوقي: الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد التركي جدّد خالد العربي فإن باني تركيا الحديثة ذهب في معركة استئصال المظاهر الإسلامية في الدولة والمجتمع حدودا متطرفة محمّلا الطبقة الدينية مسؤولية تخلف الدولة العثمانية وانهيارها. المشكلة مع أتاتورك أنه أسقط العلمانية ومعظم تدابيره الأخرى إسقاطا بحيث عندما لاحت أول فرصة للشعب انقضّ عليها في انتخابات 1950 ومع مختلف الأحزاب اليمينية مثل أحزاب العدالة والوطن الأم واليوم مع حزب العدالة والتنمية. كانت العلمنة في تركيا بمثابة ثياب جديدة على جسم قديم أو قبعة جديدة على رأس ودماغ قديمين. لكن مع ذلك لا يمكن أن نقول إن أتاتورك انتهى فما تركه من تغييرات في المجتمع هو وخلفاؤه كان أحد الأسباب التي حملت ما يسمى بـ "النموذج التركي" كما حملت تغييرات أيضا في صفوف القوى "التقليدية" الإسلامية منها خصوصا. من ذلك وعلى رأسها القبول بالآخر والانخراط بالعملية الديمقراطية، الانتخابية على الأقل، فبات الإسلاميون مثلا، من موقعهم في البلديات وفي الحكومة والبرلمان، أكثر قربا من الناس وقضاياهم اليومية ما أثر على خطابهم الذي بات أكثر اعتدالا وعلى ممارستهم التي باتت أكثر تطرفا. وتعززت هذه النظرة مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 حيث قاد رجب طيب أردوغان ما سمّي بـ "الثورة الثانية". وكانت ذروة التغييرات الجديدة الإصلاحات عامي 2003 و2004 والتي مهّدت لبدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2005. غير أن الثورة توقفت فجأة بعد هذا التاريخ. وباستثناء الاستفتاء على تعديلات دستورية عام 2010 طاولت بشكل أساسي نفوذ الجيش في الحياة السياسية، لم يعد المراقبون يجدون خطوة جذرية واحدة تعزز النظام الديمقراطي والحريات بل شهدت في مجالات عديدة نكوصا إلى الوراء. قدّمت تركيا نفسها نموذجا للعالم الإسلامي عبر عنواني الديمقراطية والعلمنة. ورئيس الحكومة التركية نفسه أثار غضبا إسلاميا ومصريا عليه عندما دعا إلى عدم الخوف من العلمنة. لكن يبدو أن مواقف أردوغان في القاهرة في نهاية صيف 2011 كانت موجهة إلى الغرب وليس إلى العالم العربي أو الإسلامي. ذلك أن حكومة حزب العدالة والتنمية تكاد في عيون المراقبين الغربيين على الأقل جهازاً لـ "انقلاب مضاد" في تركيا يطال قبل أي شيء أسس النظام العلماني لا تعزيزه أو على الأقل المحافظة عليه. ويلفت الجميع تلك الخطوات التي تقوم بها الحكومة والتي تهدف إلى توسيع حضور الحالة الدينية في المجتمع وفي الدولة أيضا. ومع أن الاعتقاد في دولة علمانية خيار فردي فإن رئيس الحكومة أردوغان كان دعا سابقا إلى أن تقوم الدولة بتنشئة جيل متدين وحافظ. وأُخذ على أردوغان أن هذه الدعوة تتعارض مع الدولة العلمانية إذ إن العلمنة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان والمعتقدات. وأردوغان بذلك يؤسس كما أتاتورك لما سمّي بـ "جيل محارب": أتاتورك لجيل علماني محارب وأردوغان لجيل ديني محارب. واستمرارا لهذا النهج اتخذ أردوغان وحكومته خطوات انطلاقا من الرغبة في تعزيز النزعة الدينية في الدولة والمجتمع ومنها تعديل مراحل ومناهج النظام التعليمي بحيث يمكن للطالب أو الطالبة في عمر مبكر جدا هو عشر سنوات تقريبا أن يترك المدارس العامة وأن يدخل المدارس الدينية المعروفة بإمام خطيب وهي نفس المدارس العامة مع وجود العديد من المواد الدينية الإضافية. كذلك اتخذ أردوغان مواقف انطلاقا من المعيار الديني ومن ذلك معارضة الإجهاض أو حتى الولادة القيصرية والتحضير لتشريع قانون يمنع الإجهاض. لقد وصف البعض في الداخل التركي أن ما تشهده تركيا اليوم هو "ثورة إسلامية" وعودة إلى ما قبل العلمانية. كما يبدي دبلوماسيون أوروبيون في أنقرة للمرة الأولى تخوّفهم من تنامي هذه النزعة وأثرها السلبي على مستقبل تركيا ودورها ومخاطر انخراطها في تحالفات ذات أسس دينية أو مذهبية خصوصا أن أردوغان نفسه وصف الحضارة المسيحية البيزنطية بأنها حضارة سوداء. وإذا كان لهذه المخاوف أساسها فإن التوازن بين متطلبات الحفاظ على الهوية والخروج من مشكلات العالم الإسلامي المزمنة ضروري لمنع انزلاق البلاد إلى واحد من حدّين: التطرف العلماني أو التطرف الديني.