13 سبتمبر 2025

تسجيل

النموذج الأتاتوركي في الحكم

15 أبريل 2015

أعادت الدعوة التي وجهها أحد الرؤساء العرب للقيام بثورة دينية وكتابة فقه جديد، أعادت إلى الأذهان التجربة الأتاتوركية في الحكم، حيث يفترض الكثير من المحللين أن ثمة اقتباسا يتم على نحو واضح لخصائص هذه التجربة، على الرغم من أنها تراجعت بشكل واضح في الدولة التي شهدت ظهورها وتبلورها. وسواء أكان هذا الاقتباس اقتباسا واعيا مرده استشعار هذه القيادات أن السياق الذي أفرز التجربة الأتاتوركية فى تركيا يبدو متحققا لديها بشكل ما، على اعتبار أنه كما كانت تركيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى تواجه خطر التقسيم والتفكك، فإن دولها هي الأخرى يهددها شبح التقسيم ومؤامرات الإفشال والفوضى. أو كان اقتباسا غير واعٍ مرده الرغبة في التأكيد على شرعية وقوة الدولة في مواجهة المجتمع، ونسخ الأثر الذي أحدثته ثورات الربيع العربي، تماما مثلما حاولت التجربة الكمالية تأكيد شرعيتها في مواجهة السلطان الديني للخليفة بانتهاج شكل علماني للدولة التركية الحديثة، فإن استعراض بقية عناصر النموذج الأتاتوركي في الحكم، سيظهر أن الاقتباس العربي لها يكاد يكون حرفيا.فقد أرسى النموذج الأتاتوركي ملامح نمط من أشد أنماط العلمانية فجاجة، حيث افترض أن المواطن المتدين لا تصح مواطنته على نحو كامل، وأنه تشوب ولاءه للدولة شوائب غير مقبولة. ومن ثم لم تكن العلمانية في التطبيق الأتاتوركي تشير إلى مجرد فصل الدين عن الدولة، ولا حياد الدولة تجاه الدين؛ ولكن إخضاع الدين ومؤسساته ومصادره على نحو كامل من قبل الدولة، كما أصبحت العلمانية في النموذج الأتاتوركي مبررا لاستبعاد الدين من المجال العام، بعد أن تم استغلاله وتوظيفه لفترة وجيزة في بدايات التجربة الكمالية في الحكم (وصف أتاتورك نفسه بوصف الغازي في أثناء حرب التحرير، ولاحقا كان يصف المعارضين لتجربته السياسية باسم "المرتدين"). بهذا المعنى لم يتم التبرؤ من الإسلام على نحو كامل في النموذج الأتاتوركي ولكن جرى تأميمه، بحيث صار حكرا على الدولة، تفسره بالطريقة التي تتراءى لها وتخدم أغراضها وتتماشى مع أهدافها، مع التأكيد على عدم السماح لرجال الدين إلا بتأثير هامشي ومحدود.وفي النموذج الأتاتوركي خلقت الدولة صورة لعدو داخلي، ممثلاً في الإسلاميين (والأكراد)، وصورتهم على أنهم يعملون ضد وحدة الدولة ويحاولون تقسيمها، فحاربتهم بكافة أشكال العنف، وسخرت أجهزة إعلامها لتصويرهم على أنهم أعداء أزليون للدولة، واستخدمت كافة أجهزتها وكافة الوسائل الممكنة والمتاحة لها لإلزام سائر المواطنين بالطاعة وعدم معارضة النظام. وفي إطار النموذج الأتاتوركي تنازل مؤسسو الجمهورية عن الديموقراطية والحريات، بزعم حماية مشروعهم الوطنى من الأخطار، كما نجح هذا النموذج في تطوير مفهوم "دولة الأمن القومي" التي تؤكد أن أمنها القومي ومن ثم "وجودها" فى حالة تهديد مستمر، وتخلق حالة من الأزمات والإحساس بالخطر تقنع المواطن أنه لا غنى له عنها.وفي النموذج الأتاتوركي يعتقد القادة العسكريون أنهم من أنقذوا الدولة وحافظوا عليها من مؤامرات الداخل والخارج، وأنهم بهذه الكيفية يمثلون إرادة الشعب ويملكون الحق في قيادته بدون مشاركة أو مراقبة من قبل ممثلي الشعب المنتخبين. كما يؤكد العسكريون أنهم يمثلون أعلى الفضائل الإنسانية، فهم يتميزون بالانضباط، والوطنية، والطاعة، والقدرة على الإنجاز، إلى جانب الكفاءة والسلامة. وأنهم بحكم حيازتهم لكل هذه الصفات يحق لهم أن يصيروا أوصياء على الشعب، وأن يتدخلوا عندما يرون أن ما عهد إليهم في خطر (حقيقي أو محتمل)، أو عند وجود تهديدات بمراجعة ثوابت إرث الأتاتوركية.وإذا كانت المؤسسة العسكرية في إطار هذا النموذج تؤكد باستمرار أن دورها ينحصر في حماية الاستقرار، عن طريق مواجهة الأعداء الخارجيين والداخليين للدولة، فإنها تحت هذا البند الضيق تدخلت في كافة أشكال الحياة السياسية على نحو متكرر. فعادة ما كانت توضع مجموعة من النصوص القانونية والدستورية رهن تصرف الجيش بحيث يمكنه إقالة الحكومة، أو تمرير توصياته إلى السياسيين، على نحو لا يملكون إلا الانصياع له.وفي إطار النموذج الأتاتوركي وقف القضاء دائما إلى جوار المؤسسة العسكرية، لحماية الدولة من مواطنيها، وذلك عن طريق تفسير الدستور والقوانين بطريقة ساعدت المؤسسة العسكرية على القضاء على منافسيها من السياسيين المعارضين. ومن مفرزات هذا النموذج، أن صارت الدولة والحكومة شيئا واحدا، حتى إن الانتخابات التشريعية كان يتم مراقبتها من قبل أجهزة الدولة وذلك لمتابعة ما إذا كانت الأحزاب المنتخبة ستحيد عن مصلحة الدولة وعقيدتها السياسية، أم لا. وحين يبدو أي انحراف عن عقيدة الدولة كان يتم الإطاحة بالمسار السياسي، وإحلاله بمسار جديد من صنع الدولة وأجهزتها المركزية.وكما يظهر العرض السابق فإن خصائص النموذج الأتاتوركي تبدو متحققة بدرجة كبيرة فى العديد من الأنظمة العربية الحالية، وهو ما يدفع إلى التنبؤ بأن هذه الأنظمة مرشحة لمواجهة نفس أنواع المشاكل التي اعترضت التجربة الكمالية، وربما مرشحة أيضا لمواجهة نفس حالة التراجع الذي شهدته الأخيرة أمام التيار الذي ناصبته العداء باستمرار وهو تيار الإسلام السياسي. المرجع الأساسي: راينر هيرمان، تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية: الصراع الثقافي في تركيا.