11 سبتمبر 2025
تسجيلخُلقنا من نُطفة أمشاج، قطرة مخُتلطة لكل كائن حيّ، يحمل منها خليطاً من صفات الأسلاف والأجداد، تنغرس في جدار الرحم مع أيامها الأولى كانغماس البذرة بالتربة وقت الحرث، معلنةً عن بدء مرحلة التعلق التي نحتاجها لننمو ونتطور، ملتحمين بالخلايا والاغشية التي سنبلغ بها مرحلة الاستقرار الامنة، لتتكون اجسادنا ببطء دون تدخل ليد بشرية. ارواحنا فيها غير محمية من تلوث محيطها الخارجي الذي قد يبث فينا سمومه، إلى ان تحين لحظة الضغط على رئتينا لندوي بصرخات رعب من وجود لم نعهده، نتنفس بأعين حائرة باحثين عن تعلق آمن، لتبدأ أول مراحل الحياة الفطرية دون خبرات أو تجارب، صفحات بيضاء نقية لا تلطخها أفكار ومخاوف وتجارب مؤلمة، نتلقى فيها كل ما هو جميل و قبيح، كاذب و صادق، طيب و خبيث، دون تمييز بينهما فليس لنا حول ولا قوة، سوى مراقبة من حولنا وهم يتشاركون في تعبئة خزاننا الجديد، حرصاً منهم على ان لا تتكرر مأساتهم، فما تعرضوا له علينا تخطيه، وما عانوا منه يجب ان نتحاشاه، ليثرونا بخبراتهم الحياتية منذ نعومة أظفارنا، فيكيلون لنا من الأوامر ما يشعرنا بالعجز، لتتبدد الثقة بالتشكيك وتخور القوى بالترهيب. انها نواياهم الحسنة وقلوبهم المُحبة التي تُحركهم، لنتناغم مع محيطهم، فنكره ما يكرهونه، ونتّبع كل ما لهُ يميلون، وإلا فستُطلق علينا الاحكام ونتعرض للعقاب والحرمان، إذاً فليس أمامنا إلا الانصياع لكيلا نُنبذ من مملكة الحياة التي ألفناها ولا نعلم سواها. يحملنا بساط الأرض الممتد، مُدحرجاً عجلة مراحلنا العمرية، فتكبر همومنا وتتفاقم مخاوفنا، ونحن نتطلع لأهداف الآخرين ونسعى لتحقيق احلامهم التي لم تسعفهم مشاكلهم من تحقيقها، لنحمل اثقالهم مُطأطئين رؤوسنا إلى ان نبلغ نقطة التحول التي نفيق فيها مُكتشفين بأن احلامنا ورغباتنا مُغايرة ومخالفة لاسلافنا، فتحدث الكارثة التي تزلزل ارجاء معمورة ارواحنا المسالمة. ولكن دعونا نتساءل: هل جميعنا نكتشف ذلك؟ أو نبلغ هذه النقطة المحورية؟ ام ان هناك من يقضي طوال عمرة يرتدي ما خيط له ويسير بدروب قاتمة لا تناسبه، لإيقانه بان ما خططه الاخرون أفضل وأنسب! لأنهم أكبر وأحكم ويملكون من الخبرات ما يؤهلهم لرسم الطريق للآخرين والتخطيط لمستقبلهم. دوامة يعيشها الفرد بعد كل المكتسبات المجتمعية التي جعلت منه صورة مطابقة للآخرين، يخشى ان يطير خارج سربها، راضخاً لقيودها وقيمها المركبة، متعايشاً مع تناقضاتها المرعبة. ولا ادعو هنا للعصيان والتذمر، بقدر ما ادعو من يدّعون الحكمة من التوقف مع الذات، لاستيعاب نقطة واحدة فقط وهي بأن ما يناسبك ليس بالضرورة يناسب الآخرين وما يتناسب معهم لست مجبراً على تبنيه ليناسبك، لكون ما اكتسبته من الحياة ليس بالضرورة صحيحاً أو مناسباً لذاتك لتفرضه على الآخرين بحجة انه يتناسب مع محيطك الذي بدوره فرضه عليك. بلغنا القرن الحادي والعشرين، وما زال هناك من يرسم لأبنائه خارطة الطريق فيحدد مجالاتهم العلمية ورغباتهم الشخصية، باختيار رفقائهم وشركاء حياتهم، متشبثاً بقراراته لإرضاء محيطة المجتمعي غافلاً عن متطلباته الروحية التي حُرم منها قسراً، ليحرم منها اجياله تباعاً. كل ما اطلبه لحظة توقف مع الذات تتساءل فيها: هل كان بالإمكان ان أعيش بشكل أفضل؟ قد يسمح لك هذا التساؤل برؤية أبواب لم تفكر يوماً فتحها لأنك لم تلمحها أصلاً، لتثير بأعماقك مشاعر لم تلوثها التجارب والمكتسبات، مجردة من الواقع وخالية من الشوائب، ابحث عما يناسبك بداخلها واترك ما يناسب الآخرين لهم، فهم أقدر على تحديد اختياراتهم التي تتناسب واحتياجاتهم، فلا حاجة لان تبذل طاقة إضافية قد يكون ضررها أكبر من فائدتها وان كانت نواياك جميلة ومشاعرك خالصة. إلا ان الإجابات تعتمد على مرونة الفرد ودرجات وعيه بمستوى استحقاقه الذاتي وسط ظروفه الحياتية التي قد تفتح له فرصا جديدة بقرارات ذاتية، وقد تجره الى حتميات تبناها مجتمعة. لذا، لا تتجاهل كونها تجربة مخيفة، أن تعيش عقوداً طويلة من عدم اليقين، تترقب فيها المجهول، خوفاً من ان يخذلك جسدك والآخرون، تتعارك من اجل البقاء برفقة قائمة طويلة من الخيارات والاحتمالات السوداء الي لم تكن من اختياراتك والتي بالتالي لن تبلغ بها السعادة والرضا الروحي الذي خُلقت من اجله، لتعود لمتلازمة حتمية تثير جدلاً من حتمية فرصة أن تعود الى السديم العدمي الهادئ الذي يسبق مولدك.