01 نوفمبر 2025
تسجيلمن أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات تظهر من خلال القدرة على صقل المسار الثقافي، الحفاظ عليه وتسهيل عملية الانتقال فيه بأشكاله المعاصرة من دون أن تكون طفيلية ودخيلة على المجتمع بشكل صادم وصعب تقبله. وهذا من وجهة نظري يعتبر من أصعب التحديات وأكثرها جرأة لرسم ذاك الطريق الذي بإمكانه تحديد الثقافة كمظلة إنتاجية حيوية، تفادياً أن تكون رهينة الإنتاج الاستهلاكي المكتسح. وقبل أن نبدأ الحديث عن العملية التي من خلالها نستطيع أن نبني الخطة الاستراتيجية الثقافية، لا بد وأن تتبنى أولاً مبدأ المحافظة على الثقافة حتى تكون في مقدمة الإنتاجية الاستهلاكية، بل ورفيعة المستوى من الاستهلاكية الترفيه خاصة، والتي نقلت الأفراد من نمط سلوكي مسرف ومرفه لا يستند على قاعدة على قدر استناده على السعي وراء الثراء السريع، أو حتى التجويف النوعي للمعرفة والمحتوى، الذي أدى إلى نزعة استهلاكية وما يتبعها من اهتمامات وقيم بديلة قد لا تستند بالضرورة إلى أسس اجتماعية واقتصادية وثقافية راسخة، ولا تفسر التحولات القيمية لهذا النمط السلوكي بعجلته المتسارعة والتبعية. وهذا التخوف بحد ذاته يعتبر سبباً رئيسياً في ارتقاء الإنتاج الاستهلاكي الترفي على الإنتاج الثقافي القيمي والنوعي بما يحمل من سمات روحية ومادية وفكرية وعاطفية تتجسد في الخصخصة الاجتماعية متضمنة الفنون والأدب والقيم والتقاليد والمعتقدات، وحتى المبادئ. وكل تلك السمات تتطلب أهدافا واضحة، جريئة وابداعية لتحقيقها. ولا تختلف عن أهمية الاستهلاك الذي يسبق الإنتاجية، إذ لابد من الاقرار بأن الاستهلاكية تعتبر آلية مستدامة ومطلوبة للانتعاش الاقتصادي، ولكن حاز الاستهلاك في هذه الحال على الصدارة التي طالت الثقافة من دون أساس واضح على الرغم من ثرائها السريع! حتى إن الثقافة نفسها تم استغلالها استهلاكياً كي تكون من ضمن إنتاجية الترفيه السريعة والترفيهية، والمجوفة نوعياً من وجهة نظري وذلك من خلال ضم الثقافة الشعبية للائحة الاستهلاك الجوفي. وهذا الانسياق يعتبر بالنسبة لعدة باحثين إساءة إلى القيم الثقافية وتؤثر حتى على الذوق الرفيع والجمالي للناس، حيث تصب الذائقة في هذه الحال في دائرة ثقافية ضيقة تعكس ضعف النقد الثقافي فيها، وصعوبة هضم المنتج، أي صعوبة الانتقال وتفسير المبدأ الجديد من دون إعادة انتاج وتجديد للخصخصة الاجتماعية التي تنسجم أكثر مع أحوال وذائقة المجتمع الثقافية - المحلية. وهذا التصور بحد ذاته يحتم صعوبة الانتقال للنظرة المعاصرة وصعوبة التجديد الثقافي، لأنها ابتعدت عن الانسجام الأساسي وانجرف نحو الانسجام الخارجي والجديد، لأن الاستهلاك الترفي والسريع في هذه الحال عكس واقعا يعتمد على مصادرة السلعة التي تغرس القيم الجديدة وليست المتجددة باستخدام عدة وسائل ووسائط تروج لتلك القيم بسرعة. ومن هنا يكمن التحدي في مواجهة نمط الاستهلاك السائد كنقيض للثقافة الجادة. كما نلاحظ أيضاً أن مهمة الثقافة لا تنحصر فقط على التجديد وهضم القيم والتقاليد السائدة، إنما أيضاً لا بد من اتساع مشروع الاستراتيجية الثقافية كي تكون ممارسة مرهونة بالوعي أولاً، تستقطب التعددية الثقافية لتقديم أهداف شمولية تلبي ذائقة المجتمع من حيث تشجيع الانسجام مع أحواله وتطلعاته، حتى يكون حضور المجتمع الثقافي حضورا خاصا يحمل معه سيادة الابداع والتعبير والفن والنقد والانتاج عوضاً عن المبالغة في السطحية، الاسترخاء والابتذال. من هنا تنطلق الاستراتيجية الثقافية عبر زيادة وزن الثقافة كي تكون أكثر رفعة وأكثر شمولية وتأثيرا كتنمية ثقافية شاملة وجادة. خلاصة موجزة: الاستراتيجية الثقافية من المفترض أن تحمل ثلاث مراحل رئيسية بأهدافها الفرعية كي تضمن مستوى التأثير وتقاوم نقائض الثقافة الجادة، حيث تتضمن مرحلة المدخل من متغيرات ومؤثرات تلعب الدور في غرس السمات الثقافية، والمخرج عبر أداة التعبير وانعكاس السمات عموماً، وما يتوسط هذه العملية من مسرعات ومنشطات تحفيزية، وقوى ناعمة قادرة أن تكون حلقة الوصل للتأثير العمومي للثقافة بمعانيها الواسعة ومحيطها الابداعي. [email protected]