11 سبتمبر 2025
تسجيلبعد 1000 يوم يتضح أكثر وأكثرما ذكرته مع بداية حصار قطرمن حتمية فشله. فقد فشلت دول الحصار وفشل الحصار وأدى إلى نتائج عكسية. فهدف دول الحصار كان هو كبح جماح صعود قطر والحد من استقلاليتها ووضعها تحت الوصاية السعودية ووصاية دول الحصار. وتأكدت هذه الرغبة الجامحة لدول الحصار بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وتباين مواقفها منها مع موقف قطر الداعم لتطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعيش الكريم. ولتحقيق ذلك كان لابد من كسر قوة قطر الاقتصادية، سواء كان ذلك من خلال الحرب الاقتصادية على قطر ومحاولات ضرب العملة و زعزعة الاستقرار المالي والاقتصادي، بهدف زعزعة استقرار النظام وإسقاطه، أو من خلال الحصار بشكله الأوسع بمحاولة تدمير كل ما يغذي صعود قطر من موارد ويرمز له من مظاهر قوة صلبة كانت أم ناعمة، اقتصادية كانت كثروات قطر الطبيعة، واستثماراتها الخارجية، والخطوط الجوية القطرية، أم إعلامية كقناة الجزيرة الفضائية، رياضية أورمزية كتنظيم لقطر لبطولة هي الأهم على المستوى العالمي لأول مرة في الشرق الأوسط بِما لذاك من دلالات على قدرات قطر المالية والتنظيمية، ومستوى الثقة الذي نالته وتأثيرها العالمي. القوة الاقتصادية تعزز الاستقلالية السياسية إن في القوة الاقتصادية قوة سياسية واستقلالية في القرار السيادي، والأمثلة على ذلك كثيرة. قارن مثلًا بين قطر والبحرين. البحرين منزوعة السيادة ولا تخرج عن العباءة السعودية وجزء كبير من ذلك بسبب الضعف الاقتصادي والحاجة. ولكن الذي حدث في حالة قطر كان هو العكس. فعوضا عن أن يضعف الحصار الاقتصاد القطري، أدى إلى تقويته، من خلال اعتماده أكثر على الذات، ومعالجة أوجه الخلل، والحد من الانكشاف على دول الحصار، والتنويع بالضرورة، وتنويع شركاء قطر الاقتصاديين، وتقوية علاقاتها الجيواقتصادية، والمضي قدما في بناء اقتصاد قوي بمعزل عن جيران لا يمكن الوثوق بهم لتجنب التعرض للصدمات و زعزعة الاستقرار الاقتصادي مستقبلًا. السياسات المضادة للحصار وللمزيد من الإيضاح فقد تبنت قطر نوعين من السياسات المضادة للحصار. سياسات في الآجل القصير لموجهة أثر الصدمة وتعزيز استقرار قطاع الاستيراد والقطاع المالي، من خلال الدعم والتدخل المباشر وتحويل خطوط ومصادر الإمداد إلى وجهات بديلة، وتوسعت الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي لضمان تدفق السلع بالأسعار المناسبة؛ والتدخل بضخ سيولة في القطاع المالي للتعويض عن خروج رؤوس أموال وتعزيز استقرار العملة والاستقرار المالي. سياسات على الآجل المتوسط إلى الطويل، تركزت حول تنويع الاستيراد والإنتاج وتقوية علاقات قطر الاقتصادية والجيواقتصادية. ففي القطاعين الحقيقي والخارجي على سبيل المثال: تبنت قطر مجموعة من السياسات لدعم الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الخفيفة وجذب السياحة والاستثمار، وتنويع الشركاء الاقتصاديين، وهي مستمرة في برامج البنى التحتية وكأس العالم، وفِي تركيم وتنويع الاستثمارات الخارجية اقتصاديا وجيواقتصادية، وزيادة إنتاج الغاز الطبيعي لدعم الاحتياطات والثقة والنمو، ولتقوية علاقات قطر الجيواقتصادية، من خلال ربط صادراتها واستثماراتها بدول مؤثرة على الساحتين الاقتصادية والسياسية العالمية، لبناء علاقات على مصالح مشتركة مع هذه القوى. ويبقى قطاعي النقل والسياحة الأكثر تضررا بالحصار نظرا لظروف الجغرافيا، وقد تبنت قطر سياسات لجذب السياحة ودخلت في شراكات مع بعض خطوط الطيران العالمية الأخرى. هذه السياسات أدت إلى إحباط الحصار، وإلى مرونة أكبر في الاستيراد وتنوع أكثر في الإنتاج وانكشاف أكبر على العالم وأقل على دول الحصار، وبالتالي إلى المزيد من القوة الاقتصادية ومن ثم أيضا المزيد من الاستقلالية السياسية. هل كانت قطر مستعدة لهذا الحصار؟ نستطيع القول إنها كان مستعدة تلقائيا إلى حد كبير لعاملين وهما ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول مجلس التعاون، وصلابة الاقتصاد القطري في مواجهة الحصار. أولًا: ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول الحصار لا يوفر لها الأدوات المطلوبة لفرض حصار اقتصادي ناجح على قطر. فهذه الاقتصادات ضعيفة هيكليا، بمعنى أنها جميعها متخصصة في إستخراج مورد واحد وهو النفط، وتصديره للعالم الخارجي، واستيراد في المقابل ما تحتاج إليه من سلع استهلاكية ورأسمالية وعمالة من الخارج، عبر البحار والأجواء الدولية المفتوحة. لذلك لايوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها أوما تضغط به على قطر من خلال الحصار التجاري، إذ ظلت التجارة البينية في دول المجلس تراوح مكانها عند 10 % لعقود. هناك بعض التركزات في استيراد بعض المواد من أو عبر دول الحصار، كمنتجات الألبان والدواجن وبعض المنتجات الأخرى، وهذه إما مرنة، الإنتاج محليا أو الاستيراد من مصادر بديلة أو مصادرها الأصلية، وهذا ما حدث بالفعل. إذن فشل التكامل التجاري الخليجي، بل وفشل التكامل الاقتصادي الخليجي في معظم المجالات الأخرى-الطاقة، الصناعة، المواصلات، العملة وغيرها- لا يتيح لدول الحصار البيئة الاقتصادية المواتية لفرض حصار اقتصادي مجدي على قطر، وخفض تكلفة الحصار على الطرفين. فلا يوجد لديهما الكثير مما يمكن خسارته من جراء هذا الحصار، في ظل الاعتماد الكبير على الموارد الهيدروكربونية وعدم تنوع وتكامل الاقتصادات. فلايوجد منظومات وحدوية (كاتحاد نقدي أوالطاقة مثلا) يخشى أن يؤدي انهيارها إلى فقدان بعض المكاسب أو خسائر أو زعزعة الاستقرار الاقتصادي الخليجي. بل لوكان مثل هذه المنظومات الوحدوية قائم قبل الحصار، لربما شكلت موانع ضد فرضه في المقام الأول. فرب ضارة نافعة لقطر. فعندما أفشلت المملكة العربية السعودية التكامل الاقتصادي الخليجي في عدة مجالات (منها مد جسر بين قطر والبحرين، وربط المنطقة بمحطة توليد عملاقة للطاقة الكهربائية)، وعرقلة تسويق الغاز القطري على المستوى الخليجي، فتح ذلك الأفق واسعا أمام تسويقه على المستوى العالمي. فأصبحت قطر عملاقا في الطاقة والمنتج والمصدر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم، إذ تمده بثلث احتياجاته منه. فأصبح استقرار قطر مهما لإمدادات الطاقة واستقرار سوق الغاز العالمية، وللاستقرار والنمو في العديد من القوى الاقتصادية والسياسة المؤثرة حول العالم. فتأثير الدول وأهميتها لا يقاس دائما بالحجم. لو كان الأمر كذلك لكانت مصر، وهي الأكبر عربيا من حيث السكان، والفساد أيضا، أكثر تقدما تكنولوجيا وصناعيا وفِي مستويات التنمية والمعيشة من سنغافورة مثلا، وهي أصغر حجما من معظم الدول العربية. ولكن الأمر يتعلق بالكفاءة في استغلال الموارد وعلى رأسها المورد البشري. ثانيا: صلابة الاقتصاد_القطري نتيجة تبني سياسات سليمة مبكرا أسست لبنى إنتاجية وتحتية واستثمارية شكلت أضرعا لكسر الحصار. فقطر تبنت مبكرا سياسات اقتصادية كلية سليمة لاستغلال الموارد الطبيعية الضخمة وبناء اقتصادي حقيقي قوي وقادر على امتصاص الصدمات خلال عقدين قبل فرض الحصار وذلك من خلال الاستثمار في: بنى إنتاجية من خلال تأسيس أكبر بنية تحتية لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المسال في العالم، وهذا شكل مصدر دخل مستقر لقطر إلى حد مقبول خلال الأزمات السابقة وخلال هذه الأزمة. بنى تحتية من شبكة اتصالات ومواصلات وموانئ ومطار حديثة ومتطورة، تربط قطر بالعالم الخارجي وتساعدها على تجاوز الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة. بنى استثمارية، لتركيم واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافيا واقتصاديا (عبر الأصول المالية والحقيقة، كالنفط والصناعة وغيرها) لتستخدم لإدارة الدورة الاقتصادية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أوقات الركود والأزمات، ولتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال، ولتقوية علاقات قطر الجيواقتصادية من خلال ربط صادراتها واستثماراتها بقوى مؤثرة عالميًا. تبني سياسات احترازية كلية متحفظة معاكسة للدورة المالية لتحصين القطاع المالي مبكرا مع بداية ارتفاع أسعار النفط وبداية الدورة المالية، مع بدايات العقد الماضي عامي 2003-2004، وهذه حصنت القطاع المالي ضد الصدمات والأزمات المالية السابقة والراهنة. ويمكن تصنيف السياسات الاقتصادية التي تبنتها قطر بنوعين: سياسات اقتصادية سليمة قبل فرض الحصار وسياسات اقتصادية سليمة مضادة للحصار بعد فرضه. هذه السياسات والبنى التحية تؤتي أُكلها الآن وتشكل روافد لدعم استقرار واستمرار الاقتصاد القطري في وجه الحصار، وأدت إلى المزيد من القوة والاستقلالية الاقتصادية وبالتالي أيضا المزيد من الاستقلالية السياسية.