29 أكتوبر 2025
تسجيلالقوة هي خلاف الضعف، وفي القرآن دعوة لإعداد العدة المناسبة لامتلاك القوة في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)، وهي ليست محصورة في قوة السلاح، بل تشمل قوة الساعد أو الجسم والصحة وقوة الاقتصاد والمعرفة وقوة الفكر والمنطق وغيرها من مجالات الحياة المختلفة. لماذا الدعوة للقوة؟ لأن القوي عادة ما يكون صاحب كلمة ورأي نافذ، سواء كان القوي على شكل إنسان أم دولة أم حضارة. التاريخ البشري زاخر بالكثير من الأمثلة الدالة على ذلك، وخذ مثالاً على ذلك الحضارة الرومانية في فترة تاريخية ما وقوتها وتأثيرها على ما سواها، ومن ثم الحضارة الفارسية وبعدها اليونانية، وكيف كانت لكل حضارة قيمها ورؤاها للأشياء، وهكذا. لكن من المهم قبل التعمق في هذا الأمر، الانتباه إلى أن القوة والسيطرة عادة تؤدي بك إلى ما يمكن تسميته بازدواجية المعايير، فقد ترى أمراً هنا فتقول رأيك فيه، وترى الأمر نفسه في موقع آخر، لكن رأيك لن يكون كما كان، بل يتغير بحسب ما تقتضيه مصلحتك. هكذا هي النفس البشرية إن أطلقتها دون ضوابط من دين وقيم وأخلاق. الغرب ونموذج القوة العالم الغربي اليوم كأوضح الأمثلة على حضارة قوية مسيطرة، يعطيك شرحاً عملياً لمعنى ازدواجية المعايير في مواقفه الدولية المتنوعة، وليس هذا بالأمر الغريب أو المستهجن من قبل الغرب، الذي لا ينكر هو بنفسه أنه بنى حضارته على أسس مادية بحتة، ويبحث عن مصلحته ويدافع عنها بكل ما لديه من قوة وعتاد من تلك التي يبنيها لسنوات طوال لمثل هذه الأوقات. الغرب يتحرك بمنطق القوي ذي البأس في العالم. هذا المنطق يدفعه للتحرك وفق مقتضيات محددة عنده، لا يهمه أنها تتوافق مع غيره، حتى على سبيل الافتراض أن العالم كله يعمل معاً ضمن منظومة واحدة هي ما تسمى بالأمم المتحدة، فالواقع العملي يختلف تماماً عن النظري أو الافتراضي، الغرب يتحرك بناء على مصلحته وليس مصلحة آخرين، قوته في غالب المجالات الحياتية تسمح له باتخاذ القرار المطلوب، بل وتنفيذه باقتدار أيضاً. التعايش مع الأقوياء إن خطابات التعايش بين الغرب بقسميه النصراني واليهودي وبين المسلمين، بحسب مفهوم القوة الذي نتحدث عنه، أحسبها تحتاج إلى صياغة جديدة وفهم أعمق لمفهوم كل طرف للتعايش. فالمفاهيم كما نعلم هي نتيجة معتقدات وثقافات، فما يعتقد بصحته الغرب مثلاً، ليس شرطاً أن يكون كذلك عندنا نحن المسلمين والعكس صحيح. فماذا يعني هذا؟ في القرآن الكريم الأمر واضح وبيّن "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، وقد جاء في تفسير الطبري أنه "ليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهودياً نصرانياً، وذلك مما لا يكون منك أبداً، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة". المسألة إذن دين وعقيدة ومفهوم لا يمكن تغييره، مهما حاول أصحاب خطابات التعايش من الطرفين الترويج إلى غير ذلك. ولنكن صرحاء جداً ونقول بوضوح تام، أن هناك عدم رغبة من المعسكر الغربي في الاقتناع بهذا الدين، مهما قلنا وشرحنا له عن مبادئه وتعاليمه السمحة العادلة، فتلك هي العلة الأصيلة في هذا الأمر، وما التقارب الحاصل اليوم مع الغرب بكل معسكراته، وفي جميع المجالات إلا نتيجة مصالح مادية مؤقتة، حالما تتحقق لهم نتائجها المرغوبة، فالتخلي عنك لن يكون صعباً وفي أي وقت يشاؤون. الأمر كما يقول صاحب تفسير الظلال بصورة أوضح: "ليس الذي ينقصهم هو البرهان؛ وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق، ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت. لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق". هذا هو لب الأمر كله، بل لم لا نقول بأن دعوات التعايش ربما تكون أقرب إلى الوهم أو هي الوهم ذاته، وشواهد الأحداث أكثر من أن نحصيها. خلاصة الحديث لا شيء في أن تكون وتعيش بين الأقوياء، لكن أن تكون مثلهم في القوة، وإلا فإن ذاك التعايش لا يسمى تعايشاً تتساوى الأمور بين المتعايشين معاً في الحقوق والواجبات، بل هو أقرب إلى أن يكون تبعية ذليلة مذلة، وإن لم تظهر على السطح مظاهرها بشكل واضح جلي، لكن استشعارها أمر واقع في غالب القلوب والنفوس، وعلى الرغم من توفر جل العوامل في هذه الأمة لتكون ضمن عالم الأقوياء، إلا أن الأنانية والحقد والحسد مع شيء من البلاهة والبلادة المسيطرة على غالبية أصحاب القرار، أدت بهم إلى الفرقة والتشتت بين الشرق والغرب، وضاعت قدرات بوصلتهم على تحديد الاتجاه السليم الصحيح، فكانت النتيجة هي وضعنا الحالي الذي لا يحتاج إلى كثير شروحات وتفصيلات.