13 سبتمبر 2025
تسجيلفي السياقات اللغويَّة المستجدَّة، وعلى هامش مصطلحاتها وألفاظها المتداولَة، قد يُخيَّل لنا أنَّ بعض التراكيب اللُّغويَّة المستعملَة ما هي إلَّا لغة تمَّت صياغتها في سياق عربيٍّ فصيح بحت، لا تتخلَّله أيّ من العامِّيَّات أو اللُّغات الأجنبيَّة الدخيلة، علاوة على منغّصات العربيَّة الأخرى، وفي هذا الإطار نحتجُّ إلى النطاق الزمانيّ أوَّلًا، ثم المتحدِّث باللُّغة ثانيًا. لا شكَّ أنَّ النمط الخطابيّ المتكلَّف يؤول في كثير من الأحيان إلى إفساد جوهر القول، ويُحيل إلى الذود عن المطلب الفكريّ المُراد، والجدير بالذكر -هنا- أنَّ البعض قد يركن إلى التسليم بالمتداول والتصديق بالمتواتر على اعتبار أنَّه حقيقة لغويَّة مستجدَّة. إنَّ الاهتمام بالمبنى على حساب المعنى إشكاليَّة كبيرة ضمن جملة من الإشكاليَّات التي أصابت اللُّغة، وحين نتفكَّر في ذلك، نتساءل: ما الذي يقود المتحدِّث إلى الاستعمالات اللُّغويَّة التي يصعب فهم معناها، ولا نبالغ حين نقول إنَّ جمهور أهل العلم يستصعب منها، ويدخل في صراع ومحاولات حثيثة لتفكيك معاني اللُّغة المستعملَة ومقاصدها، وفي هذا السياق إنْ ألزم المُخاطِبُ نفسه بالترف اللُّغويّ واللُّغة العالية -إنْ صحَّ التعبير-فإنَّه ألزم نفسه أيضًا بذكاء لغويٍّ فريد، يضمن للمتلقِّي فهم المقاصد دون عناء تفكيك مبانٍ وتأويل معانٍ. وحقيقة الأمر، إنّ تحقيق المقاصد والوصول إلى منتهى الغايات، تحتاج في أساسها إلى رؤية واضحة. وهدف مرصود، بعيدًا عن الترف اللُّغويّ المُبتذَل، إذْ إنَّ علاقة المبنى بالمعنى علاقة وطيدة، ولا يكون أحدهما إلَّا بحضور الآخر، فلا يمكن أنْ نفترض وجود مفردة مُفرغة من المعنى، في المقابل لا يمكننا التعبير عن المعاني إلّا من خلال المباني، وهذا يُبيِّن مدى تلاحم المبنى بالمعنى والعكس صحيح، وهذا التلاحم ضرورة من ضرورات الاستعمال اللُّغويّ بشكل عامّ؛ وفي ضوء ذلك نقول: إنَّ استخدام المفردات الصعبة التي لا تنفك إلّا بعد تحليل وقراءة مستفيضة في المعاجم والسياقات اللُّغويَّة ليست دليلًا على الإتقان اللُّغويّ، بل إنَّ اللُّغة المتقنة هي التي تتناسب مع الزمان والمكان والوضع الراهن دون الانتقاص من أبجديات اللُّغة. ونرى في هذه المعضلة أنَّ الأكثر توفيقًا هم مَنْ يستعملون اللُّغة بحيث تتناسب مع الجمهور المُخاطب، والزمان والمكان أيضًا. ولعلَّ قارئ يتبادر إلى ذهنه موافقتنا على إقرار العامِّيَّات لغة علم رسميَّة، وهذا ليس صحيحًا بالمطلق؛ هناك هامش متَّسع للاستفادة من قدرات العامِّيَّة، ولكن ليس على هذا النحو. في السياقات اللُّغويَّة الفصيحة، ليس من الأهمِّيَّة بمكان أنْ تُعنَى بما تقول أو لا تقول، إنَّما الأهمُّ أنْ تدرك أهمِّيَّة صياغة ما ستقول، وإنْ وقع إخلال فيما تواضع عليه الناس مما جرت عليه الأفهام والألسنة؛ فحسبك كسر لا جبر فيه يحول دون تحقيق مقصد الكلام. عندما نكون حيال خطاب ما، ثم نتلقَى المفردات ضمن سياقاتها؛ نباشر فورًا وبشكل لا إراديّ البحث عن المعاني والمقاصد، فإنْ كانت اللُّغة جزلة في متناول المتلقِّي؛ سَهُلَ فهمُها دون عناء وجهد، أمَّا إنْ كانت لغة فيها من المفردات النادرة التي يصعب على المتلقِّي فهمها واستيعاب مقصدها؛ فلا شكَّ أنَّ أيّ محاولة لتفكيكها ستُحيلها إلى سوء فهم كبير، وهذا بدوره يُحيل الهدف المرجو من مقصد الكلام إلى طريق مسدود دون تحقّق الفائدة. وخلاصة القول؛ أنَّ الخطاب كي يكون ناجحًا يجب أنْ يكون ضمن البناء النحويّ للكلام أوّلًا، ودلالات ألفاظه ضمن المعجم المعاصر ثانيًا، ويحتكم إلى المقام التداوليّ ثالثًا، وهذا الأخير هو الرابط بين المُرسِل والمُتلقِّي. وعليه إنَّ الترف اللُّغويّ المُبتذَل -اليوم- في سياقات كثيرة لا بدَّ أنْ يُواجَه بوعي فكريّ مؤمِن بالهدف الأساسيّ للغة.