15 سبتمبر 2025

تسجيل

وقفة مع منتدى النهوض باللغة العربية

15 فبراير 2016

بالنظر إلى عنوان المنتدى بعناية وتمعن، يتبين أن اللغة العربية في أزمة حقيقية، بل في مأزق كبير، من حيث الهجر والتداول، والهجوم والانتقاد، ومن قبل من؟ من قبل أبنائها وبني جلدتها، ومن يلبس ثوبها النقي الأصيل. فقد توالت الهجمات الشرسة على اللغة العربية، والطعن فيها، وانتقادها واتهامها بأنها لغة بالية قديمة، ليست عصرية، وغير قابلة للتطور، وغير مواكبة للحداثة، وغير صالحة للعلم، فهي ليست لغة العلم ولا العصر، ولا لغة التكنولوجيا والكمبيوتر والمعلومات، بل لغة المتخلفين غير المثقفين من بني البشر، فهي لغة متخلفة عن الركب الحضاري. ولذا، فهُجرت اللغة العربية من أهلها إلى لغة الأعاجم من الغربيين الأوروبيين والإنجليز والأمريكيين، فأصبح اهتمام الأسر العربية والمثقفين العرب ينصب على اللغة الإنجليزية، وإتقانها والتحدث بها والتواصل من خلالها، وكأنها اللغة الوحيدة في العالم، وعلى حساب اللغة الأصلية للمجتمعات العربية. فأصبحت المجتمعات العربية تتباهي بأبنائها الراطنين باللغة الإنجليزية، والمتحدثين بها على الملأ في المحافل المحلية والإقليمية والدولية، وهناك أمثلة كثيرة على مستوى الوطن قد يأتي ذكرها لاحقا إن اتسعت المساحة المتاحة. ومن هنا جاء الشعور بالأزمة، ودق ناقوس الخطر، مما أدى إلى تأسيس "المنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية" وإخراجها من أزمتها، فتبنت دولة قطر مشكورة ممثلة في "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع" قضية اللغة العربية بكل فخر واعتزاز وشعور بالانتماء الحقيقي لأمتها العربية، واعتبرتها قضيتها الأساسية باعتبارها قضية وجود وكيان وهوية، فاحتضنت المؤتمرات والندوات والمنتديات، وأقامتها على أرضها لبحث الأزمة، وتشخيصها، وتحديد أسبابها، والعمل على علاجها في نهاية المطاف من خلال اقتراح بعض الحلول الناجعة في ضوء أسباب المشكلة وانعكاساتها على الناشئة من أبناء الأمة عامة، والوطن بشكل خاص. وتأكيدا لذلك، وانطلاقا من هذا الشعور، جاءت المطالبة القطرية بضرورة وجود إرادة عربية رسمية ونخبوية وشعبية لحماية اللغة العربية من الضياع والتدهور، وذلك على لسان رئيس مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع سمو الشيخة موزا بنت ناصر في كلمتها الافتتاحية لمنتدى النهوض باللغة العربية تحت شعار "التنشئة اللغوية للطفل العربي: الواقع وآفاق المستقبل" والذي عقد في الدوحة في الفترة (من 20 -21 يناير 2016م). ولم تقتصر الكلمة الافتتاحية على هذه المطالبة، بل شملت بعض المحددات والأسباب التي أدت بالجمهور إلى هجر لغتهم وضعف الاهتمام العام بها من قبل الأطفال والشباب والأسر وأولياء الأمور والمسؤولين في الدول العربية عامة، وقطر بشكل خاص على مستوى القطاعين العام والخاص. واختتمت الكلمة بالإشارة إلى بعض أساليب العلاج مثل ضرورة الاهتمام بمناهج اللغة العربية وتبسيطها، متضمنة بعض الإشارات والأحاسيس الوطنية، والاعتزاز بالهوية العربية مثل "الأمم تتحصن بلغاتها، والعربية بالنسبة إلينا هي الهوية الواقعية، والعربية هي صوتنا الذي نحضر بحضوره ونغيب بغيابه". وتُعزز هذه العبارات والتوجهات والأحاسيس، بعبارات مماثلة نابعة من الاعتزاز باللغة والهوية ومدى ترابطهما ببعضهما البعض من التربوي القطري الأول الدكتور عبدالعزيز بن تركي السبيعي، وزير التربية والتعليم الأسبق في كلمته بالمنتدى باعتباره رئيس مجلس أمناء المنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية بإشاراته الداعمة بقوله "إن للتنشئة اللغوية للطفل دورا كبيرا، ومهما في ترسيخ الهوية، وإرساء الثقافة، وبسط اللسان في حقول المعرفة والعلم، والإسهام في العطاء والبناء، والتقدم الحضاري للأمة". وليس هذا فحسب، بل أظهر السبيعي أيضا إيمانه الراسخ بقوة اللغة العربية في مواجهة التحديات بقوله "إنه على الرغم من التحديات والعقبات التي تواجه تطور اللغة العربية، إلا أنها منطلقة في ركبها بإذن الله، وأنها باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مؤكدا أنه لا وجود لمن لا هوية له، ومن أراد الخلود فعليه الاعتزاز بلغة الضاد. وطالب رئيس مجلس أمناء المنظمة في نهاية كلمته بعدم اللحن في اللغة العربية، والزج باللهجات العامية، وإدخال الكلمات الأجنبية دون مبرر، (الشرق والراية، الخميس 21 يناير 2016). هذا ما ورد في كلمتي الافتتاح من رموز كبار في الدولة، ومعنيين باللغة العربية، وليسمع السامعون، والمتغنون باللغات الأعجمية اعتزازا وافتخارا وتباهيا وتظاهرا بالثقافة، وكأن الثقافة لا تستقيم إلا بالرطانة والتغني بلغة الأجنبي الغربي الإنجليزي، وكأنه لا ثقافة بدونها، ولا حضارة في غيابها، فالتحدث والتغني بلغة الغير ليست معياراً للثقافة، ولا دليلا على التقدم والرقي، فليس كل من تحدث الإنجليزية تقدم، وليس كل من لم يتحدث الإنجليزية تأخر. وكل من خاطب جمهوره وقومه ومواطنيه بلغة غير لغتهم تعالى عليهم. ولذا، فلتسمع تلك الفتاة القطرية التي أصرت على التحدث إلى جمهورها العربي الخليجي في ندوة محلية في قطر بالإنجليزية، ولتسمع تلك المسؤولة التي تصر في كل مناسبة إلا فيما ندر على التحدث إلى جمهورها العربي في غالبيته باللغة الإنجليزية، ولتسمع تلك المديرة التي ترفض قبول أي عضو لا يتحدث الإنجليزية في أي لجنة من لجان إدارتها أو قسمها الذي تديره، وليسمع ذلك المسؤول الكبير في مؤسسته الذي لا يحلو له الحديث إلا بلغة الغير، ولتسمع تلك الأم القطرية المرتدية لزيها الوطني التي تصر على أن تخاطب أبناءها وبناتها في الجمعيات والمجمعات التجارية باللغة الإنجليزية، ولتتذكر هذه الأم، وغيرها من الأمهات اللاتي لا يستقيم بهن الأمر إلا بالتفوه بكلمات إنجليزية للظهور بمظهر حضاري مزيف أمام الملأ أن "التنشئة اللغوية هي الهوية". وما ذلك إلا نتيجة طبيعية للانبهار بلغة الغير، والاعتزاز بها، وإنكار الأصل، لغة المجتمع، اللغة العربية .. لغة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وقومه وأمته، التي شرفها الله من أعلى سابع سماء إذ اختارها لغة سامية لكتابه العزيز "القرآن الكريم". فهل يعقل أن تستبدل لغتنا العربية، ولغة قرآننا الكريم، بلغة قوم آخرين لم تشرف ولم تكرم سماويا، ولماذا نحن العرب هم الذين يجب أن يتخلوا عن مبادئهم وقيمهم وهويتهم وثقافتهم من أجل مظهر حضاري، أو مطلب دنيوي زائل لا محالة، ولماذا لا نكون أقوياء بما فيه الكفاية، ونتمسك بقيمنا ومبادئنا وثقافتنا وهويتنا، شأننا في ذلك شأن الأمم الأخرى، كاليابانيين، والصينيين، والكوريين، والألمان، والفرنسيين، وحتى الإيرانيين وغيرهم من الشعوب والأمم الحرة المعتزة بلغتها وثقافتها وهويتها. فالعيب فينا، والخلل فينا، ولا يمكن إصلاحه إلا من خلالنا، وبإرادتنا الذاتية وبشكل فردي أولا، وليس جماعيا، وذلك لأن مسؤولية الجميع مسؤولية لا أحد، أما مسؤولية الفرد فهي مسؤولية الكل. وتأسيسا لما ورد في كلمة الشيخة موزا بنت ناصر، فالحاجة ماسة لإرادة وطنية قبل أن تكون عربية، فهي وطنية أولا، تتسع رقعة انتشارها فيما بعد شيئا فشيئا لتصبح إرادة عربية رسمية نخبوية شعبية. ولنبدأ بالوطن، بقطر، فمعظم مؤسسات الدولة العامة والخاصة للأسف لا تدعم جهود النهوض باللغة العربية في متطلباتها وشروطها وتركيبتها الداخلية، ومواصلتها مع الآخرين، ولغة التواصل فيما بين المنتسبين للمؤسسة الواحدة، فلنأخذ جامعة قطر على سبيل المثال، وعلى المستوى الرسمي ناهيك عن المستوى الشخصي لمنتسبي الجامعة، فالجامعة في غالبيتها رطانة في رطانة، ولحن في لحن، وكلمات إنجليزية بمبرر وبغير مبرر، فتتعثر الرطانة أحيانا، وينكسر اللحن أحيانا أخرى نتيجة لمحاولة المسايرة ممن تعجز ألسنتهم عن الرطانة واللحن باللغة الإنجليزية، فالاجتماعات في معظمها تدار بغير اللغة العربية، ومعظم المؤتمرات تغلب عليها اللغة الإنجليزية، ورش العمل، والندوات العلمية والثقافية تقدم باللغة الإنجليزية، والمراسلات والمخاطبات تتم في معظمها باللغة الإنجليزية، والكثير من المقررات الدراسية تدرس باللغة الإنجليزية، ومقررات الدراسات العليا، ووفقا لتوجهات وسياسات جامعية عامة تطرح وتدرس باللغة الإنجليزية، وشروط القبول محكومة بنتائج اختبارات اللغة الإنجليزية، مما يشكل هاجسا كبيرا للطلبة قبل دخولهم الجامعة، وبفترة ليست بالقصيرة، مما يدفعهم إلى التوجه نحو اتقان اللغة الإنجليزية، واجتياز اختباراتها، ويدفعون ذلك من وقتهم وجهدهم، ويصرفهم عن الاهتمام بلغتهم وقراءاتهم الذاتية بلغتهم العربية، أوليس في هذا انصرافاً وغفلة عن الاهتمام باللغة العربية؟ وماذا بقي في الجامعة للغة العربية، ففي الواقع لم يبقى شيء، وحتى أسماء الطلبة في كشوف الغياب والدرجات تصدر باللغة الإنجليزية، وموجودة على نظام البنر باللغة الإنجليزية، فأين العربية في مؤسستنا الوطنية؟ وكيف يمكن لهذه المؤسسة، ومن في حكمها من مؤسسات الدولة في ظل هذه الاتجاهات والسياسات والقناعات أن تدعم توجهات وجهود النهوض باللغة العربية، وحمايتها من الضياع. سؤال يحتاج إلى إجابة شافية وافية. وعلى فكرة، فالأمر لا يقتصر على جامعة قطر، كما وردت الإشارة آنفا، بل يتعداها ليشمل مؤسسات أخرى في الدولة مقتنعة تمام الاقتناع بهذا التوجه والاتجاه، ولديها نفس القناعات. ولذا، فنقول ونصر مرة أخرى وثانية وثالثة على أن الحاجة ماسة إلى إرادة وطنية في المقام الأول، قبل أن تكون عربية، والله من وراء القصد.