11 سبتمبر 2025
تسجيلأما العزيزُ فهو شعب هذه الثورة وأهلها الذين قدموا، ولا يزالون، للعالم دروساً في التضحية والعطاء وحب الوطن قلﱠ نظيرُها في التاريخ. لا بأس في هذا المقام أن يَصف بعض (المثقفين) هذا الكلام بـ (العاطفي)، مع أننا نؤكد عليه انطلاقاً من قراءة قوانين وسُنن الاجتماع البشري. وحين نستخدمُ الكلمات المكتوبة أعلاه بشكلٍ يبدو فيه تكرارٌ لها، فلأن اللغة نفسَها باتت تعجز عن رفد المرء بمصطلحات تفي بالمقام. لا مُشاحة هنا أيضاً في استذكار كل الأخطاء والمشكلات التي مرت وتمرﱡ بها الثورةُ وأهلها. لأن هذه الثورة تحديداً تُمثل بشكلٍ عام تجربةً بشريةً غير مسبوقة في التاريخ المعاصر على الأقل. نقول (بشكلٍ عام) لأن ثمة استثناءً وحيداً في الظاهرة، وهو استثناءٌ أقرب للمفارقة، ويتمثل في أن السوريين (البشر) يواجهون نظاماً يبدو أن نصيبه من البشرية، بمعناها الإيجابي، لا يتجاوز الوصف الاسمي. يكفي القول إن الثورة أخرجت من السوريين في بداياتها أسمى ما يمكن أن يخرج من البشر، لكن هذا أخرجَ من النظام وأزلامه أخسﱠ ما يمكن أن يخرج من البشر. كانت ممارسات السوريين في الأشهر الأولى من الثورة أقرب لممارسات الملائكة. ثم إنهم واجهوا، مما باتت الناسُ تعرفهُ، ما لا يُطيقهُ البشر ابتداءً. فكان طبيعياً جداً، ومتوقعاً جداً أن يعود السوريون ليكونوا بشراً. لا تسكنُ الأرضَ ملائكة، ولا يقوم هؤلاء بثورات. وإنما يسكنُها البشر، وهؤلاء البشر هم من يجب أن يكملوا ثورتهم، حاملين على أكتافهم كل ما في البشر من ضعفٍ وقصورٍ من ناحية، وكل ما فيهم من قوةٍ وعزيمةٍ وقدرة على المراجعة والاستعادة والفعل وصناعة التاريخ من ناحيةٍ ثانية. هذه هي العزﱠةُ الإنسانية في معناها الحقيقي، وهي العزة التي تكون دائماً مدخلاً للنصر، خاصةً حين يكون الخصم ذليلاً. نعرفُ الكثير عن الذل الذي يتلبس أتباع النظام، نقرأ عن هذا ونشاهده ونسمعه في كل يومٍ بألف طريقةٍ وطريقة. لكن هزيمة الذل القادمة قلما تكون واضحةً وصريحة كما هي الحال حين تعرفُ ممارسات وفد النظام في أجواء مؤتمر جنيف2. ومن هنا تحديداً. تقرأ مُعطيات المؤتمر بكل ملابساتها المُعلنة والخفية، فلا تملك إلا أن تشعر بالتفاؤل. لا يتعلق الأمر بمهارة وفد الائتلاف الوطني المعارض، مع الاحترام لجهوده. فقد أشرنا وأشار غيرنا لثغراتٍ كبيرةٍ في التحضير والأداء. وهي ثغراتٌ تتعلق بتقصيرٍ يعترف به بعض أعضاء الوفد بصراحةٍ ووضوح. والمرحلة القادمة تحتاج إلى مراجعات يحتاج إليها الائتلاف، كما تحتاج إليها كل القوى الفاعلة في الثورة. ربما نحتاج لرؤية الصورة من زاويةٍ أخرى لفهمها وإدراك دلالاتها. فنحن من ناحية بإزاء ثورةٍ طليقةٍ من كل قيد، فلا أسرَ لبطلٍ مُلهم، ولا اصطفاف وراء زعامةٍ تاريخية، ولا تقديس لرمزٍ لا يمسهُ النقد، ولا طاعة عمياء لقائدٍ لا يخطئ، ولا تأليه لإنسانٍ يحتاج في نهاية اليوم إلى إخراج فضلاته. هذه هي ثورتنا اليوم، وهذا هو إنجازنا الكبير الذي سنرى نتائجه استراتيجياً رغم كل التضحيات والآلام الراهنة. وهذا هو وفدُ الائتلاف، الذي اعترف به العالم ممثلاً للثورة، عرضةً لكل ألوان النقد والتوبيخ والاعتراض، بل والاتهام والتخوين. ما من سوريٍ واحد، صغيرٍ أو كبير، يخشى اليوم من ممارسة النقد والتصريح برأيه في هذا المجال. في مقابل هذا، ترى وفد النظام نموذجاً مثالياً على ذُلﱢ الإنسان في أبشع تجلياته. كيف لا وكل فردٍ فيه يؤمن بأنه مأسورٌ لبطلٍ مُلهَم، يصطف جندياً مذعوراً وراء زعامةٍ تاريخية، ويُقدس رمزاً لا يجب أن يمسه النقد، ويُطيع بشكلٍ أعمى قائداً لا يمكن أن يخطئ، ويُؤلهُ فوق كل هذا إنسان جاء من التراب وسيعود إليه. لهذا، يتحدث الجعفري رئيس الوفد خلال الجلسات وهو يحسب كلماته ورنة صوته خوفاً من (الإله) الذي يسمع كل ما يجري على الطرف الآخر من خط الهاتف.. فلا تخرج من فمه إلا البذاءة بمختلف أشكالها. لا يملك مثل هذا الإنسان فسحةً للتفكير بمحاذير ما يمكن أن يحصل تدريجياً وهو يحاول إضاعة الوقت بتوجيه الإهانات وكيل الاتهامات غالباً لوفد الائتلاف، وأحياناً للإبراهيمي. ولهذا أيضاً، يجلس أعضاء وفد النظام كالأصنام دون أن يجرؤ واحدٌ منهم على الكلام. صحيحٌ أن قوانين الجلسات تنص على أن يكون الحديث للإبراهيمي ورئيس الوفدين يوجهان الخطاب إليه، لكن من حق رئيس الوفد أن يُعطي الكلمة لأي عضو. وفي حين يحصلُ هذا بين أعضاء وفد الائتلاف، لا يجرؤ الجعفري على ممارسة ذلك خوفاً من زلة لسانٍ قد تودي به وبصاحبها إلى مجاهل النسيان. وهذا الذلﱡ هو الذي يدفع الوفد لعدم الإطالة في المباحثات خوفاً من هفوةٍ ما، ومن (إلهه) الذي تجب العودة إليه مراراً وتكراراً كل يوم. وهو الذي يجعل الحضور يرون أكثر من مرة المقداد وغيره يُنصتون بخوفٍ ورعب لهمسات أشخاص مجهولين يرافقونهم على الدوام. وبما أن الذل كثيراً ما يأتي في لَبوس الكِبر، فقد كان من (بركات الثورة) وتوفيق المقادير أن يتكبر وليد المعلم على رئاسة الوفد، ليرأسها أكثرهم غلظةً وفظاظةً وبذاءةً في اللسان والتصرفات. في محفلٍ دولي يجب أن يكون حضورهُ أمثلةً للتهذيب والاحترام. لن تتوقف روسيا في محاولاتها لكسب الوقت والتلاعب بالمسار السياسي بكل الطرق الممكنة. ولا تبدو في الأفق علاماتٌ أكيدة على جدية موقف (أصدقاء سوريا)، خاصة الإدارة الأمريكية في البحث عن مخرجٍ بديل. بل إن أعضاء الوفد الأمريكي أنفسهم يُعبرون في جلسات خاصة عن تبرمهم وضيقهم من موقف الإدارة، وثمة أقاويل بأن روبرت فورد رئيس الوفد سيستقيل عن قريب، ربما ليقينه بأنه لن يتمكن من إنهاء خدمته الدبلوماسية بشكلٍ إيجابي. لكن الدروس العامة من أجواء جنيف تدعو إلى تفاؤلٍ حذر، يمكن أن يكون كبيراً في حال توافر بضعة شروط تتعلق كلها بالسوريين الذين يجب أن تكون الأوراق القوية بأيديهم في نهاية المطاف. فالائتلاف الوطني مُطالبٌ بالقيام بمراجعات كبيرة لا تقف عند الأداء في جنيف والتحضيرات له ولما قد يليه في المسار السياسي، بل وتتجاوز ذلك إلى تعزيز لُحمته الداخلية عبر مزيدٍ من المشاركة والشفافية والشراكة الحقيقية بين مختلف مكوناته. وأهم ما في الموضوع أن الأوان آن لإبداع تصورٍ سياسي يكون فيه اعتبارٌ حقيقي وكبير لفصائل الثورة العسكرية الفاعلة على الأرض السورية. فهؤلاء الرابضون على الثغور ليسوا بدورهم ملائكةً منزهين، لكن ممارساتهم العملية والفكرية المتطورة باستمرار تُثبت تمسكهم بقيم الثورة الأصيلة وأهدافها، وتؤكد بالتالي الحاجة الماسة لترتيبات سياسية وعملية يكون لرأيهم ورؤيتهم فيها وزنٌ مُعتبر.