02 نوفمبر 2025

تسجيل

ميكانيزمات صناعة الرأي العام

15 يناير 2022

يرتبط مفهوم الرأي العام في عمومه بالوعي السياسي لدى مجتمع من المجتمعات، فهو بدون شك يعتبر مظهراً مباشراً لوجود المجتمع السياسي، فلا ينشأ إلا مع توفر الوعي السياسي لدى الجماهير، أي وعيها بالقضايا العامة التي تمس مصالحها الجوهرية. في جزيرة العرب الرحيبة وحتى فيما قبل الإسلام، حيث المجتمع الجاهلي، كانت دار الندوة التي اتُّخذت مركزاً يجتمع فيه شيوخ قريش إذا ما طرأ غُمّ أو التبس عليهم أمر ما. وكذلك كان سوق عُكاظ الشهير صورةً حيةً من صور مؤسسات الرأي العام كوعاءٍ أوسع يجمعُ كل عرب الجزيرة العربية وليس قريشا فحسب. وكان عكاظ سوقا حددت قريش زمانه ومكانه (في الأشهر الحُرم بين الطائف ومكة) بعد أن رأت أن خطرا وجوديا يتهددها من قبل الأحباش. وبعد الإسلام استمر سوق عُكاظ يُقام كل عامٍ قبل انصراف الناس من الحج. وعلى الرغم أنه يبدو لأول وهلة سوقا ذا أغراض تجارية بحتة، إلا أنه كان معرضا عاما ومجمعا لُغوياً، له محكمون تُضرب عليهم القباب، فيعرض شُعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بخسوه فهو كذلك. وبالفعل فقد تغلب النشاط الأدبي والسياسي على التجارة. من الناحية السياسية أراد زعماء القبائل جمع العرب على كلمة واحدة ضد ما يهدد كيانهم لاسيما بعد عام الفيل. وظل عُكاظ برلمانا سياسيا كبيرا تُقضى فيها أمور كثيرة وقرارات مصيرية. اليوم عبثا تقوم هيئة الأمم المتحدة بمجهود (رسمي) في سبيل بسط السِّلم الدولي، وعكاظ كان لها صورة مصغرة تشبهها بحسب الظاهر لا في الحقيقة، لأن عُكاظ لم تُرائي لتبرر للقوي أكل الضعيف. ولعل مفهوم الرأي العام ظل من المفاهيم الشائعة الاستعمال في العلوم الاجتماعية وفي لغة السياسة اليومية على السواء. ويرجع مفهوم الرأي العام إلى عهود تاريخية سحيقة، عاصرت وجود الجماعة الإنسانية، أو الظاهرة البشرية في صورة مجتمع، فقد عرفه الفكر السياسي والاجتماعي بمفاهيم مختلفة كإرادة الأمة، ومشيئة الشعب، وعبر عنه المسلمون الأوائل بمصطلحات عدة مثل الاجتهاد، والإجماع، والشورى، وجمهور الأمة. ولربما اختلفت ميكانيزمات تشكيل الرأي العام بتطور وعي المجتمعات وكذلك بتطور أدوات التشكيل حتى أن مصطلح (تشكيل) تحول إلى (صناعة). والتشكيل يُعنى بالمُشاكلة أي الموافقة والمماثلة والتشاكُل مثله. وإشكال: اصطلاح أرسطي في أساسه يراد به وضع رأيين متعارضين لكل منهما حجته في مسألة بعينها. وتشكيل بوجه عام؛ جملة العمليات الذهنية التي تنصب على المعطيات المباشرة التي تكوّن مادة المعرفة، فتصورها وتبلورها، وشاكله مُشاكلةً وافقه وماثلَهُ، وتشكّل الشيء تصوّر. فهذا التعريف المسهب قد يشير إلى التكوين التلقائي للرأي العام وفق تفاعلات معطيات معرفية؛ بينما قد يشير مصطلح (صناعة) إلى تدخل ما مقصود، لتوجيه الرأي العام وجهة بعينها إما لأغراض سياسية أو تجارية. وقديما كان الرأي العام في المجتمعات البدائية يتشكل عادة عن طريق الماكنيزمات المتولدة عن العادة أكثر مما كانت تأتي عن طريق المناقشة وإشاعة المعلومات وحرية تبادلها أو فرضها. فقد كان أفراد تلك المجتمعات يخضعون لتأثير العادات أكثر مما كانوا يخضعون لسلطان الأفكار. ما بين الصناعة والتشكيل يقع الرأي العام ضحية لسوء النوايا وخطل الوسائل والأدوات؛ فالحكومات والأنظمة السياسية فضلا عن الشركات تتزاحم وتصطرع لصناعة رأي عام يخدم مصالحها وإستراتيجياتها التي غالبا ما تتعارض مع مصلحة المجتمعات. ولعل بول غوبلز السياسي الألماني ووزير الدعاية في ألمانيا النازية منذ العام 1933 ظل أشهر السياسيين على مستوى الدعاية السوداء الهادفة لتجيير الرأي العام لصالح الحقبة النازية. وقد بدأ نشاطه منذ أن تم تعيينه رئيسا لمكتب الحزب النازي في برلين في عام 1926، بغرض استخدام الدعاية للترويج للحزب وبرنامجه. ولاحقا سيطرت الوزارة التي تولاها على وسائل الإعلام الإخبارية والفنون والمعلومات في ألمانيا. اليوم تتخذ محاولات صناعة الرأي العام وسائل وأدوات وطرقا مختلفة ومتخفية، وتنغمس وسائل الإعلام المختلفة في هذه الصناعة خوفا وطمعا. أما الآفة الأخرى التي تعتري الرأي العام، هي ما يعرف اليوم بوسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد اعتبرها بعض خبراء الإعلام أنها لم تقف عند حد الإضرار بمفاهيم الديمقراطية فحسب، بل إنها أدت إلى تغيير في مفاهيمها وممارساتها، حيث أصبحت هذه الممارسة نهباً لآفات الثرثرة والتكرار والتبسيط المخل إلى درجة التسطح، وهو ما يهدد – في تصور أولئك الخبراء - بإصابة الممارسة الديمقراطية، ومن ثم المشاركة الجماهيرية، بآفة الفوضوية في الفكر والتشتت والتخبط في الرأي وفي السلوك العام. ويجزم أولئك الخبراء بأن نمط التعددية الناشئ عن وسائل التواصل الاجتماعي إياها، لم يعد يشكل نموذج النهج الديمقراطي القويم أو المطلوب، بقدر ما أصبح نهجاً يفتقر إلى الاتزان وحسن الترتيب وتعوزه الرؤية المنظمة التي كان ينطلق منها مفكرو ودعاة وممارسو الديمقراطية. ولعل الدولة وبعيدا عن النوايا السيئة يمكن أن تضطع عبر ما يعرف بالإعلام التنموى بدور إيجابي في تشكيل رأي عام يستند في الأساس على مبدأ ديمقراطية الاتصال والإعلام والتي تفرز بموجبها إعلاما متفاعلا ومشاركا ومنتفعا، إعلاما يصف ويشخص ويجد الحلول للمشكلات أيا كانت في أي مجال من مجالات التنمية، إعلاما يعكس الإنجازات ويوسع الآفاق ويرفع التطلعات ويوجه ويشكل الرأي العام في ما يفيد الناس، إعلام يستقرئ الواقع ويستشرف المستقبل، ينبه للمشاكل والقضايا ويمنع حدوثها ويشخص المشاكل والقضايا بغية الوصول إلى حلول لها والحيلولة دون تكرارها، إعلام يربي ويعلم ويوعي ويوجه ويمارس الترفيه الواعي الذي يخدم قضية التنمية الشاملة والمستدامة خاصة في دولنا النامية، إعلام مخطط يعمل على تعزيز الاتجاهات الإيجابية وتغيير الاتجاهات السالبة للانطلاق نحو التنمية، إعلام ينشر الأفكار الجديدة والمستحدثة لتبنيها، إعلام يعتمد على المتابعة والتقييم المستمر لما يبثه من برامج وحملات عبر كافة الوسائط المستخدمة، إعلام تتكامل فيه كافة وسائط الاتصال الجماهيرية والشخصية والشعبية التقليدية والحديثة. [email protected] yasir_mahgoub@