20 سبتمبر 2025
تسجيلما من شك في أن عددا يعتد به من المصريين سوف يقبلون على التصويت بنعم على الدستور المقترح، ليس لأنهم اقتنعوا بما تضمنه من تعديلات أو حتى قرأوها، ولكن لأن كثيرا منهم يحملون خصائص "الشخصية المحافظة" المعروفة لدى دارسي العلوم السياسية. والشخصية المحافظة ليست صفة قاصرة على المصريين، ولكن تصادف لظروف تتعلق بطبيعة الثقافة السائدة أنها تمثل الكثير منهم. والمحافظون كما تعرفهم المراجع يحملون خصائص محددة، منها أنهم يقدسون الاستقرار ويبغضون التغير، فالاستقرار عندهم يحمل معنى الأمان، أما التغير فإنه يحمل معنى المخاطرة والتهديد. ومن هنا نجد المؤيدين للدستور عادة ما يبررون موقفهم بعبارات من نوع، "من أجل أن تستقر الأمور"، "من أجل أن تدور العجلة"، "من أجل أن يهدأ حال البلاد"... إلخ. ومن ثم فإن المحافظين يبدون متسقين مع أنفسهم وهم يصوتون دائما بنعم على أي استحقاق انتخابي أو استفتاء يتضمن الحفاظ على الوضع الراهن.ومن سمات الشخصية المحافظة أيضا تبجيل القوة، خصوصا إذا اقترنت بالسلطة، وبشكل عام يحترم المحافظون الحاكم المتسلط، أيا ما كانت طريقة وصوله للحكم، حيث يشعر هؤلاء بنوع من الالتزام الأخلاقي تجاهه على نحو يشبه التزامهم تجاه عائلاتهم وذويهم. وتفسر هذه الخاصية كون كثيرا من المصريين غير مقتنعين بفكرة محاكمة مبارك، فهو في نظرهم كان رمزا للقوة والسلطة، وعليه فإن محاكمته تمثل إخلالا بالتقاليد التي يبجلها المحافظون وفقا لمقاربة "الدولة — العائلة"، حيث يقع الحاكم في مكان الأب، ومن ثم فإن إهانته تعد خروجا على التقاليد المرعية والعرف السائد. وتعد "الوطنية" بالنسبة للمحافظين أكثر من مجرد شعار، فهي تمثل لهم نقطة ضعف حقيقية، ولذا يكفي أن تلعب السلطة الحاكمة على وتر الوطنية حتى تستثير حماسة وربما دموع أتباعها. والوطنية لا تشير فقط إلى حب الوطن، ولكن حب كل ما يرتبط به من تفاصيل (بما في ذلك التفاصيل السلبية)، مثل الاستبداد السياسي، والفجوة الطبقية، والقمع الأمني....إلخ. وتطابق الشخصية المحافظة بين المؤسسة العسكرية وبين الدولة، ويعتبر المحافظون أنه لهذا السبب يحق لهذه المؤسسة ما لا يحق لغيرها من امتيازات، فهي التعبير الأسمى عن قوة الدولة وبأسها، ومن هنا نفهم كيف أن كثيرا من المصريين لم تؤثر فيهم التسريبات المتعددة التي تعلقت بحجم النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، كما لم يتأثروا سلبيا من استثناء الجيش من الرقابة المالية المفصلة في الدستور المقترح، بل إن كثيرا منهم مقتنعون بأن المؤسسة العسكرية يحق لها أن تختار قائدها (وزير الدفاع) بمعزل عن السلطة التنفيذية، على اعتبار أنه "رئيس مواز" للدولة يجب أن يختار من بين أفراد مؤسسته وليس من عموم الشعب. ولا تعبأ الشخصية المحافظة بتبرير مواقفها على نحو عقلاني، فهي تنطلق من جملة تحيزات شعورية تتعلق بالذوبان في حب (الوطن - السلطة)، وتتهم كل من لا يشاطرها حبها بالخيانة والعمالة والولاء للخارج. وعلى خلاف الشخصية الليبرالية التي تضع (أو يفترض أنها تضع) ثقتها في المنطق العقلاني، فإن الشخصية المحافظة تثق في المؤسسات القائمة، بوصفها أداة الحفاظ على الاستقرار. ومن هنا لا يهتم كثير من المصريين "المحافظين" بحل التناقضات المنطقية في سلوك السلطة الانقلابية التي يؤيدونها، ففي الوقت الذي تمتلئ فيه الشوارع بالعبارات التي تدعو للتصويت بنعم على الدستور، يتم اعتقال كل من يجرؤ على الجهر بنيته التصويت بلا. فـ"نعم" مرادفة لتأييد الجيش وحب الوطن، فيما "لا" تعكس حالة من الردة عن الوطنية، والرغبة في نشر الفوضى، والكفر بالمؤسسات، خصوصا المؤسسة العسكرية.وللدين موقع مهم لدى الشخصية المحافظة، والمقصود هنا "الدين المحافظ" الذي يركز خطابه على التخويف من الفتنة، وأهمية الطاعة، والانشغال بأمور الآخرة، وفي الوقت نفسه يسكت عن إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤجل كل مظاهر الفاعلية الدنيوية حتى تأتي ملاحم نهاية الزمان، فعندها فقط يمكن للجماعة المتدينة أن تنتفض تحت راية المسيح أو المهدي المنتظر، وليس تحت أي راية أخرى قبل ذلك، ومن ثم فإن المحافظين متدينون بالمعنى السلبي، فالتدين عندهم مرادف لعدم الفاعلية السياسية، والمحافظة على الوضع الراهن، والاستكانة في ظل أي نظام حكم يمتلك القوة القاهرة. أما على مستوى العلاقة مع الآخر، فتتميز الشخصية المحافظة بكراهية الأجانب، وعدم الاعتداد بالعلاقات الجيدة مع الجيران، فالمحافظون يتخيلون أنهم ليسوا في حاجة لأي أطراف خارجية وأن بإمكانهم إشعال نيران العداوة مع الجميع. ولهذا يبالغ الخطاب المحافظ في توجيه التهديد والوعيد تجاه كافة مصادر الخطر الحقيقية والمفترضة. وقد رأينا كيف أسرف نظام الانقلاب في تعويق الحركة عبر المعابر مع قطاع غزة، وقطع العلاقات مع جارة مهمة مثل تركيا، ومارس إجراءات تصعيدية تجاه الدول التي تحفظت على قراره اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، وأيده في كل تلك الإجراءات أتباعه من ذوي التفكير المحافظ.وبنجاح الانقلاب، استعاد الخطاب المحافظ زخمه وبدأ في تصفية حسابه مع ثورة يناير ورموزها، لكونهم تجرأوا على انتهاك السلطة والقيم والتقاليد المرتبطة بها، ويمكن القول إن المحافظين من أنصار الانقلاب يجدون في التصويت على الدستور بـ"نعم"، فرصة للثأر من الثورة ومناسبة لاستعادة شكل الدولة السلطوي الذي يفضلونه، حيث تتم مقايضة الاستقرار بالحرية، فيحصل أنصار الانقلاب على "الأمن" الذي افتقدوه طوال فترة الحراك الثوري، ويتخلصون من كل من تسول له نفسه التفكير في تغيير الأوضاع أو دفعها إلى حافة الثورة مرة أخرى، حتى لو كان ثمن ذلك أن يفقد المجتمع بأكمله الحرية التي تخيل المصريون أن بإمكانهم أن يتمتعوا بها بعد يناير 2011.