18 سبتمبر 2025
تسجيلكانت بغداد تحتفل بمرور ألف عام على تأسيسها فحشدت للمناسبة الفعاليات المنوعة ودُعي لها مئات المؤرخين والأدباء مابين كُتاب وشعراء وإعلاميين يحدوهم جميعاً هوى بغداد بمكونها التاريخي ومكانها الاستثنائي الذي أغرى الخليفة أبو جعفر المنصور فاختطها عاصمة لدولة العباسيين موظفاً حيوية المكان حول الفرات لفكر استراتيجي ربما لا يزال مؤثراً بينما سكان بغداد يتجولون بين الرصافة والكرخ وحول الفرات ليظل تأسيس مدينتهم حدثاً تحتفل به الأجيال حتى وإن غاب جل مضمونه عن غالبيتهم. فبغداد تُغري إليها دائماً كعروس بابلية لذلك كنت ألبي دعوة حضور المناسبة في العام 1987م التي وصلتني وأنا في بدايات سنوات الدراسة الجامعية موقعة بخط لطيف نصيف جاسم وزير الثقافة والإعلام آنذاك فحضرت غراً بين عمالقة كبار من مؤرخين ومفكرين وغيرهم ألتزم الصمت غالباً وأدون ما يروق لي من الشعر والنثر. فالعراق كان بوابة العرب الشرقية ورحى القادسية كانت تدور حيث لا صوت فوق صوت المعركة فكل الإعلام مشغول برسم وجهة تفند كل ما يقال من غير مصادرنا فصفقنا كثيراً للعراق وانشغلت الطرق إليه بقوافل التمويل والإمداد كما صب المفكرون والشعراء ملئ جعبتهم شعراً ونثراً فقالت سعاد الصباح ما قالت وأطربني شطر بيتها وما أعقبه من قول حين قالت " أنا امرأة قررت أن تحب العراق " فقد أحببنا العراق جميعاً رجالا ونساء. أو ليس قاتل عنا العراق بالوكالة وحرس أبوابنا بالوكالة. عموماً قصيدة الدكتورة سعاد بذاتها ملحمة تفصل بين ثلاث حقب فمرة نحب معها المقاتل عنا وتارة نكره الغازي لنا وثالثة نمضي الليل طويلاً على لحون المواويل الحزينة نندب حظنا وحظ العراق. أعود إلى رحلتي تلك التي قابلت فيها الدكتور مصطفى عبدالقادر النجار وهو مؤرخ كبير شغل في تلك الفترة رئاسة اتحاد المؤرخين العرب عندما كانت بغداد مقراً للاتحاد حيث كان لنظام صدام شهية في استقطاب المؤسسات العربية لتكون بغداد مقراً لها فكنت ألتقي بالنجار كثيراً بحكم وجود السعودي الدكتور عبدالله الشبل ضمن المدعوين وهو نائب رئيس الاتحاد ففي منزله البغدادي الجميل على إحدى ضفاف الفرات حيث دعانا النجار ذات مساء فتحدث عن المناسبة كثيراً مردفاً القول مباشرة لي بأن التاريخ وثيقة لا يمكن تزويرها مهما حاول العابثون والساسة المنتهزون ومطوعو التاريخ " فالتاريخ كما يقول يملك حيادية مطلقة " كما برر النجار وجود المقر الرئيس للاتحاد في بغداد بخوف المؤرخين على موروث الأمة من العبث وبحكم أمانة العراق على الأمة وموروثها فكانت بغداد هي الأنسب لمقر الاتحاد. وبعد الغزو العراقي للكويت أصدر الاتحاد بيانه الشهير من بغداد يؤكد موقعوه أن الكويت جزء من خارطة العراق فكان في البيان رائحة قوية للسياسة وإملاءاتها. عموماً عادت الكويت حرة ونقل الاتحاد أمانته إلى القاهرة وبقي في حديث النجار ما يمكن الاستدلال به على خصوصية واقع العراق اليوم والأزمة السياسية بين رموز نظامه حيث وزعت السلطات والمحاصصات السياسية وفقاً لتقسيم جديد لتركيبة سكانية معدة وفق أجندة ألبست للعراق بعد الغزو الأمريكي الذي غادرت آخر ثلة من جنوده مؤخراً وبقي الثوب الجديد فضفاضاً غير متناسق مع حجم العراق وتاريخه الذي ظل طويلاً عصيا على دعاة الفرقة وسماسرتها لتدب في البلاد الخلافات وتزرع الخصومات باهتمام ربما أكبر من زرع التمن وأشجار النخيل. بل والأدهى أن يظل التاريخ والمؤرخون في خانة المتفرجين يرصدون فقط ما يتاح بينما قاعدة التاريخ التي صيغ بها العراق الجديد أعيد تركيبها بمزاجية سياسية جديدة وعلى مرأى من رجال التاريخ وحراسه ممن قالوا إن التاريخ وثيقة عصية على السياسة والتزوير فإذا به أداة في أيدي السياسيين وفي بلد احتفل بآلاف السنين من تاريخه. فشكراً د. النجار فقد ذهب العشاء الجميل على ضفاف الفرات وظلت أحاديث المساء شاهدا على ما يجري حول النهر[email protected]