02 نوفمبر 2025

تسجيل

مانديلا في تركيا!

14 ديسمبر 2013

عُرف الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا بأكثر من صفة أولها أنه مناضل عنيد وشرس من أجل الحرية لبلاده والاستقلال، ضد قوى عاتية من المستعمرين الأوروبيين.لكن بلوغ النجاح ليس كمثل المحافظة عليه. لقد نالت الدول العربية الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية عبر نضالات أو مساومات.لكنها فشلت في أن تنشئ دولة حديثة قائمة على المواطنة والديمقراطية فعصفت بها العواصف العاتية، الأخطر من الاستعمار، وأهمها العصبيات الدينية والمذهبية والإتنية.فصارت بعد نصف قرن على الاستقلال كيانات مضطربة إما مقسمة أو مفتتة أو في حروب أهلية مفتوحة وسط نهر دماء لا يتوقف. ولم تحد تركيا عن هذه القاعدة التي سنّها مصطفى كمال عندما قاد بلاده إلى حرب تحرير امتدت من 1919 وانتهت بإعلان الجمهورية أو الاستقلال الجديد في العام 1923.غير أن مصطفى كمال وخلفاءه لم يحسنوا أيضا بناء الدولة الوطنية الحديثة التي فهموها على أنها دولة قومية تخص القومية الأكبر ودولة مذهبية تخص المذهب الأكثر عددا ودولة حتى دينية تخص الدين الذي تنتمي إليه الغالبية.ولا يشذ عن هذه القاعدة في الحالة التركية كل الطبقة السياسية الحاكمة من علمانيين وإسلاميين أو ما بينهما. فلا غرو أن نجد أن مشكلات تركيا اليوم بعد تسعين عاما على الاستقلال هي نفسها التي كانت قائمة حينها.فبعد سنة فقط،في العام 2015، تحل الذكرى المئوية للمجازر التي ارتكبها الأتراك في ظل حكم حزب الاتحاد والترقي بحق الأرمن في تركيا وذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون أرمني بحيث لم يتبق الآن في الأناضول وكل تركيا أكثر من خمسين ألفا منهم.ولم تحل هذه القضية، الإنسانية بامتياز، حتى الآن.وحتى الآن لا تزال النخب السياسية الحاكمة في تركيا ترفض الاعتراف بالهوية القومية لأكثر من 12 مليون كردي يتمركزون خصوصا في جنوب شرق تركيا أو القسم التركي من كردستان الكبرى رغم أن قسم العراق قد تم الاعتراف به من قبل العراق ونال كيانية قوية تحت مسمى الفدرالية التي لا ينقصها أي سبب لتكون دولة مستقلة بالكامل سوى أن الظرف لم يحن بعد. وكذلك الأمر بالنسبة لفئات مذهبية كبيرة في تركيا لا يُعترف بها حتى الآن رغم أن عددها قد يتجاوز ال 15 مليونا. ونحن إذ نتكلم على تركيا فعلى بلد هو في الأساس موجود في حالة مفاوضات مباشرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وبلد اعتمد العلمنة في نظامه منذ ثمانين عاما.ويفترض أن يكون قد قطع أشواطا بعيدة في بناء دولة حديثة تسعى لتكون على السوية نفسها لدول الاتحاد الأوروبي.ولا يقع اللوم حينها على دول إسلامية أو عربية لم تمر بهذه المراحل لكنها تشهد هذا الكم من النزاعات والحروب والمجازر والوحشية. كل هذا المشهد في الدولة العربية والمسلمة وتركيا منها، يعيدنا ويقودنا إلى نلسون مانديلا.لقد قلنا إن سمته الأولى هي النضال من أجل التحرر.لكن جنوب إفريقيا اليوم بلد يعتبر من أكثر الدول الإفريقية تقدما وخاليا من النزاعات الدينية والإتنية والعنصرية.ذلك لأن السمة الثانية والتي لا تقل أهمية وربما الأكثر تطلبا وضرورة لحماية الحرية والاستقلال كانت التسامح والمصالحة مع الآخر ولو اختلف لونه أو دينه أو مذهبه أو إتنيته أو ميوله السياسية.وهو ما جعل بلاده تنمو وتعرف الاستقرار. من هنا الحاجة إلى نموذج مانديلا في رسم خريطة طريق للحرية، أولا من العدو الإسرائيلي، وثانيا من الأمراض المذهبية والإتنية والدينية، التي تنخر جسم المجتمعات العربية والإسلامية. ومع أن أحدا من المسؤولين الأتراك الكبار مثل رئيس الجمهورية عبدالله غول أو رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لم يشارك في جنازة مانديلا احتجاجا على دفاع مانديلا عن الأكراد في تركيا عام 1992 ورفضه تسلم جائزة أتاتورك وما تعنيه عدم المشاركة في الجنازة هذه من دلالات سلبية جدا واستمرار للذهنية القديمة، فإن الدرس الذي تقدمه شخصية مانديلا وتجربته أنه ليس هناك من خيار آخر سوى الاعتراف بالآخر والمصالحة لأن البديل استمرار الاضطراب الداخلي والتخلف عن الركب الحضاري العالمي.