18 سبتمبر 2025
تسجيلمن زياراتي الصحفية الكثيرة لعدد مقدر من دول العالم، ستبقى زيارتي إلى الصين عالقة في الذهن والمخيلة.. لقد ظل العالم لحين من الدهر في حالة هجرة إلى الشمال حيث الغرب الغني المسيطر سياسيا واقتصاديا؛ لكن يبدو أن تغييراً بدأ يطرأ، وجاء موسم الهجرة شرقاً، حيث الصين المارد الجديد والبديل الحاضر لأسطورة الغرب.. القوة الناعمة عنوان معركة الصين ضد الفقر والتخلف.. قصتي مع فيليب تحكي سمات ذلك الإنسان الصيني وتفسير سر الانطلاقة النهضوية. فيليب شاب لم يتجاوز عمره (25) ربيعاً لكنه قاد مجموعة إعلاميين أفارقة (عواجيز) زرت الصين بمعيتهم، بقدرة إدارية فائقة وصرامة مطلوبة مما أفضى إلى تنفيذ البرنامج المعد بدقة متناهية.. فيليب يجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة وهي لغة التخاطب الوحيدة بين أفراد تلكم المجموعة.. فيليب تلقى دورة مكثفة في الولايات المتحدة الأمريكية في اللغة الإنجليزية ومع ذلك يتحدث بتواضع جم عن (فقر) إنجليزيته وكان يردد دائما: (Sorry for my poor English ).. أعتقد أن فيليب جزء من كل، أي أنه مثال للشباب الصيني.. لعل أكثر اللحظات تأثيرا التي كشفت عن قلب فيليب الرقيق رغم الصرامة التي يتقمصها عندما أجهش بالبكاء فأرخى الصمت سُدُله على رحلة استغرقت حوالي ثلاث ساعات.. والقصة أن بعض أعضاء المجموعة كان يتأخر عن مواعيد تحرك الباص الأمر الذي يربك البرنامج على فيليب فقال ذلك الشاب ذات مرة في صرامة: (بعد اليوم لن ينتظر الباص أحدا بعد الميعاد المضروب وعلى المتأخرين تأجير تاكسي للحاق بالمجموعة)، حينها حدثت همهمات هنا وهناك وتبرع البعض بإيصال رسالة إلى فيليب مفادها: (نحن رجال أكبر منك سنا وما كان لك أن تخاطبنا بهذه اللهجة)، فقام فيليب وأخذ المايكروفون داخل الباص مخاطبا المجموعة مؤكدا أنه يحترم الجميع وهم يعلم أنهم صحفيون كبار لكن مسؤوليته تقتضي بعض الصرامة ومع ذلك مستعد لأن يتقبل النقد من ممن يكبرونه سنا وخبرة. ثم جلس فيليب وإذا به يغلي كالمرجل من شدة التأثر والبكاء ربما لإحساسه بأنه فشل أو ربما أنه شعر بأنه مضغوط ومتنازع بين ضبط البرنامج وبين ضرورة أن يتحلى بأقصى درجات الصبر والدبلوماسية وهو يتعامل مع ضيوف الصين. هذا الموقف جعل المحتجين في حالة ندم شديد وسط صمت مطبق، لكن هذا الموقف لم يغير فيليب بل سرعان ما عاد إلى نشاطه وحيويته وتبدل حال المشاغبين إلى التزام بالمواعيد. الإحساس المرهف الذي يتمتع به فيليب تمثل في ذلك الرد الذي قذف به في وجه أحد أعضاء الوفد الذي لم يعجبه ذلك المطعم الإسلامي بمدينة شنغهاي الذي تناولنا فيه وجبة الغداء.. لقد اختار فليب ذلك المطعم ليظهر تنوع الديانات في الصين وربما كذلك مجاملة للمسلمين من أعضاء الوفد. كانت عادة بعض زملائنا الأفارقة أن يكثروا من شراب الكحوليات وفي ذلك المطعم لم يجدوا قطرة كحول فنادى أحد الأفارقة كان يجلس بجانبي سائلا عن (البيرة) فقال له فيليب بلطف: (عذرا لا توجد بيرة هنا لأنه مطعم إسلامي)، فغضب صاحبنا وقال مستنكراً من أراد أن يقيم مطعما إسلاميا فليذهب إلى المسجد ويقيمه هناك. فرد فيليب عليه بنبرة غضب واستياء: (علينا أن نحترم مشاعر بعضنا البعض وكذلك معتقدات بعضنا البعض). بالمناسبة لم أشاهد فيليب ولا الفريق الذي يعمل معه يوما يتعاطون الكحوليات على كثرتها ووفرتها. كان فيليب حريصا على التأكد دائما طيلة أيام البرنامج من أن الأكل ليس فيه ما يزعج المسلمين وكنا خمسة مسلمين كانوا ضمن المجموعة (شخصي وزميلان من الجزائر واثنان من تنزانيا وكينيا). في الطريق من مدينة هافي إلى شنغهاي عبر القطار السريع جلس فيليب بجانبي ودار بيننا نقاش متعدد الجوانب وباغتني بسؤال عن الصينيين الذين يتعرضون للخطف في السودان معربا عن قلقه بشأن الأمن في مشاريع التنمية وبعد جهد جهيد تمكنت من نقل الصورة الحقيقية للأوضاع وذكرته بأن السودان مثل الصين يتعرض لتنميط صورة ذهنية سالبة من جانب أجهزة الإعلام العالمية. هذه المقاربة جعلته يستفيض في توضيح معاناة بلاده من الصورة النمطية السالبة التي تطفح بها الآلة الإعلامية الغربية. في إحدى المرات فاجأت فليب زميلة من تنـزانيا حتى فاضت عيناها بالدمع فرحا ودهشة. فيليب علم في ذلك اليوم أنه يصادف عيد ميلادها وبينما نحن نستعد لتناول الطعام إذا بصوت عال مصحوب بتورتة ضخمة يقول: (Happy Birthday to Edna etc..) وفوجئت إدنا تماما وانهمرت دموعها وتلقت التهاني من المجموعة ومضت لحظات سعيدة. وكانت هذه اللفتة واحدة من مقدرات ذلك الشاب الهمام. من طرائف تلك الرحلة أنه في أول يوم تم انتخاب (الخواجة) باتريك وهو رجل أبيض من مواطني جنوب إفريقيا لتحدث باسم المجموعة ربا لكون أفضلنا في اللغة. لكن تلك الزعامة استفزت زميلا من نيجيريا وقال مخاطبا الجمع علينا أن ننتخب رئيساً لنا بديمقراطية بدلا عن باتريك الذي يبدو أن لون بشرته قد استفز الزميل النيجري لكن الزميل النيجيري تعرض لسخرية من المجموعة التي اعتبرته طامعا في الزعامة وقال له جرامبا من كينيا: (اصمت يا أخي ماذا جلبت لنا الديمقراطية في إفريقيا غير حكام فاسدين أنظر إلى الصين حققت الرفاه لشعبها دون تلك الديمقراطية).. منذ ذلك اليوم وضع الزميل النيجيري نفسه أو وضعوه في خانة العضو (الغريب) الذي تنسج حوله الطرف والفكاهة.