19 سبتمبر 2025

تسجيل

والله لا أدعك تعـتذر !

14 نوفمبر 2019

من تسعى إليه المناصب ويمنح الثقة لتوليها عليه أن يقبلها وليس التزهد والابتعاد عنها جملة مؤثرة صاح بها الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أحد الصحابة الكرام، وقد أراد أن يوليه مسؤولية إدارة إحدى الولايات الإسلامية، فكان الرفض الجميل من الصحابي للعرض، إلا أنه واجه رفضاً من نوع آخر من أمير المؤمنين عمر.. فما القصة؟ حين أراد الفاروق عمر – رضي الله عنه - تولية وال جديد على مدينة حمص، أخذ يستعرض الأسماء في ذهنه. فقد عرفه الناس دقيقاً ورعاً - رضي الله عنه - في أي مسألة تهم المسلمين، ومنها مسألة اختيار الولاة والمسؤولين وما شابههم، للمناصب أو المسؤوليات إن صح وجاز التعبير. فقد كانت الأمانة على رأس المعايير التي كانت عنده، قبل الكفاءة والجدارة والمهارة. أما القرابة وغيرها من معايير سادت من بعد الخلافة الراشدة في أغلب بلاد المسلمين وكذلك غير المسلمين في العالم، فقد كانت مستبعدة عند الفاروق، بل لا وجود لها في دفتره الخاص باختيار المسؤولين. حتى لا نبتعد كثيراً عن القصة.. صاح عمر بعد أن لاح في ذهنه اسم الشخص المناسب لهذه المسؤولية.. وقال:" قد وجدته. إليّ بسعيد بن عامر.. فيتم استدعاؤه وهو لا يدري ما الخطب وما الأمر، ليفاجأ بعرض أمير المؤمنين عليه ولاية حمص، وما أدراك ما حمص في تلك الفترة.. فهل كبّر سعيد وهلل، أو أثنى وشكر الفاروق على ثقته وإسناد منصب ولاية حمص إليه؟ المنطق السائد والمعروف دون كثير تفكر، أن هذا هو المفترض أن يكون من سعيد. فأن يستدعيك ولي الأمر وصاحب القرار الأول في البلاد ليمنحك ثقته ويسند إليك أمراً يحلم ويطمع فيه أو يخطط له كثيرون، هو دون شك أمر ليس بالهيّن أو بالذي يمكن تجاهله وعدم الترحيب به.. لكن سعيداً يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين ! عجيبٌ أمر سعيد بن عامر.. يرفض الولاية، فيما كثيرون يحلمون بها ويسعون إليها بكل الطرق.. فهل الدهشة انتهت هاهنا؟ لا، لم تنته بعد.. إذ الأعجب من الاعتذار المبدئي الذي كان من سعيد، هو رد فعل الفاروق – رضي الله عنه – حين صاح به قائلاً:" والله لا أدعك ". هكذا وبكل اختصار وحزم قالها عمر لسعيد، ليس تخويفاً وترهيباً، باعتباره زعيم الأمة وسعيد أحد أفراد رعيته. لا، بل كان الموقف يتطلب حزماً عُمرياً لأجل أن يترك سعيد الورع وحب الذات في هذا الأمر أو هذا الموقف، حتى لو كان في طاعة الله، لأنه يدعوه إلى طاعة أخرى لله، هي عند الفاروق أفضل لسعيد بمراحل عديدة، وفي يقينه أن سعيداً لم يدركها بعد.. فأكمل عمر كلامه لسعيد قائلاً:" أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي، ثم تتركوني؟ بقية كلماته كانت النقطة المفصلية في الحديث، ودلالة على دقة وعمق الفهم عند الفاروق. نعم، كان عمر يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه وهو يدير أعظم الدول حينها. الأمانة التي أراد الاعتذار عنها يوماً ما – كما يفعل الآن سعيد معه - لكنه وافق بعد إصرار الصديق أبي بكر – رضي الله عنه – عليه وأهمية أن يتولى هو الخلافة من بعده. فوافق حينها من بعد أن وعى منطق أبي بكر، وأنه ليس من العدل فعلاً أن يتولى كل صاحب كفاءة وعلم عن المسؤوليات الكبيرة لسبب شخصي أو ما شابه. كيف تعامل عمر مع اعتذار سعيد ؟ اعتذار سعيد عن تولي إدارة حمص أغضب عمر فعلاً، ليس لشيء سوى أنه رأى حينها الكفاءة والأمانة في شخص سعيد بن عامر، وأنه الأفضل من بين من استحضر أسماءهم في ذهنه، وإنه من الأنانية أن يعتذر وقت حاجة الدولة إليه. فكلنا يرغب ذاك الاعتزال والانفراد عن الناس وعبادة الله وكسب الحسنات وتجنب السيئات، ولكن هل الدول تُدار بالزهد والدروشة والانقطاع عن الدنيا؟ دخلت كلمات عمر صميم قلب سعيد فاقتنع بها، وربما قال في نفسه بأنه ليس من العدل فعلاً كما قال أمير المؤمنين أن نتركه وقت حاجته إلينا - أو إن صح التعبير - حاجة الدولة إليه، وندعه يتحمل المسؤوليات بنفسه.. فوافق الصحابي الجليل سعيد على ولاية حمص وتوكل على الله وذهب بأهله إلى موقعه الجديد. وصدقت فراسة الفاروق فيه، فكان نعم الوالي بشهادة أهل المدينة، الذين لم يكن يرضيهم أي وال من الولاة، نظراً لصعوبة مزاجهم. فكان سعيد هو التطبيق العملي لمقولة الرجل المناسب في المكان المناسب والوقت المناسب.. واقرأوا عنه في سير الصحابة لمزيد استزادة وفائدة.. هذه القصة التي أطلنا الحديث فيها، نموذج لكيفية اختيار المسؤولين، وكيفية تفهّم من يتم اختيارهم للأمر، وأنه تكليف وليس تشريف أبداً. فمن كان يسعى لأن يتشرف بالمناصب وينجح بقدرة قادر على ذلك، فلا شك أنه في صورة من الصور، يخون ولي الأمر بتولي أمانة هي أكبر منه، بل ستثقل كاهله وهو غالباً لن يؤديها بالشكل الذي يرضي الله ورسوله. أما من تسعى إليه المناصب، ويتم منحه الثقة لتوليها، فلا يجب التزهد والابتعاد عنها، بل عليه أن يقبلها رغبة في أداء أمانة يحقق بها مصلحة البلاد والعباد. فربما يكون فعلاً هو خير مثال للرجل المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. وقبل أن أختم هذا الحديث .. دعوني أطرح هذا التساؤل: ماذا لو أن أحد الكفاءات والقدرات، وقد رأى في نفسه القدرة والمهارة اللازمة لمسؤولية ما في البلاد، أن يتقدم لولي الأمر ويزكي نفسه، أسوة بالنبي الكريم يوسف عليه السلام، حين قال للملك ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) .. هل يجوز أن يزكي الإنسان نفسه ويتقدم لشغل منصب ما دون أن تستدعيه الدولة ؟ هذا هو محور حديثنا في مقال الخميس القادم بإذن الله.. [email protected]