12 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ فترة أجريت تجربة بسيطة بمساعدة مجموعة من الطلبة الجامعيين، لاكتشاف مدى اكتمال عمليات التفكير المنطقي لديهم، وكانت التجربة تتضمن أن يدونوا فقرة أو فقرتين من الذاكرة عن تمثال "نهضة مصر"، وهو لمن لا يعرفه تمثال شهير يقبع أمام البوابة الرئيسية لجامعة القاهرة التي يدرس بها الطلبة المشاركون في التجربة، ويجسد امرأة في ثوب تقليدي تضع إحدى يدها على رأس نموذج مصغر لتمثال أبي الهول الشهير، فيما تمسك باليد الأخرى بطرف وشاحها الذي يغطي رأسها. وكان المفترض أن تشتمل إجابات الطلاب على العمليات المنطقية الثلاث، وهي الوصف والتفسير والتقييم. بمعنى أن يبدأ الطلاب بوصف التمثال، ثم ينتقلوا إلى تفسير المعاني الرمزية الكامنة في مكوناته، وينتهوا بتقييم التمثال وإبداء رأيهم في تصميمه وفيما تضمنه من معان رمزية. ولكن جاءت المفاجأة أن معظم إجابات الطلبة قد اقتصرت على العنصر الثالث "التقييم"، إذ اهتم الطلاب بإبداء رأيهم في التمثال، فاعتبره بعضهم قطعة فنية جيدة، فيما اعتبره آخرون دون المستوى، والقليل من المشاركات من تقدم خطوة إلى الأمام فقدم تفسيراً للمعنى الرمزي للتمثال. أما ما خلت منه معظم الإجابات تقريبا فكان عنصر الوصف، إذ اعتبر معظم الطلبة أن الوصف مجرد تحصيل حاصل، وأن السائل لابد وأنه يعلم جيدا شكل التمثال كما يعرفونه هم، ومن ثم فلا حاجة للقيام بهذه الخطوة. وبعد أن أخبرت الطلاب بهذه الملاحظات المنهجية طلبت منهم أن يعودوا مرة ثانية إلى السؤال ويقدموا إجابات جديدة تحتوي العناصر الثلاثة. وهنا كانت المفاجأة، فبعد أن بدأ الطلاب في محاولة الإجابة مرة أخرى، اكتشف معظمهم أنهم لا يستطيعون وصف معالم التمثال بدقة رغم أنه يعترض أنظارهم كل يوم تقريبا، فبدأ البعض في محاولة استحضار شكل تقريبي للتمثال، فيما قدم آخرون أوصافا غير حقيقية له، ولكنهم وبدون استثناء تفاجأوا جميعاً عندما علموا أن المرأة المجسدة في التمثال تضع إحدى يديها على أبي الهول كرمز للأصالة فيما تهم بيدها الأخرى بنزع وشاحها عن رأسها كرمز للمعاصرة والتحرر، وذلك من وجهة نظر المثّال الذي أراد أن يوصل رسالته عبر هذا الرمز الخلافي بطبيعة الحال. كان الدرس المستفاد من هذه التجربة أن ما ينقص الكثير من عمليات التفكير قد يكون هو أبسط الخطوات، وهي خطوة الوصف السليم، فنحن لا نستطيع أن نفسر أو نقيم أي ظاهرة ما لم نقم بوصف ملامحها بدقة. فالتفكير الصحيح يبدأ بوصف المشكلة وصفا دقيقا، فبدونه يصبح التفسير بلا معنى كما يصبح التقييم بلا مضمون. يمكن تعميم نتائج هذه التجربة على نطاقات أوسع، وبخاصة هذه الأيام، لفهم المشاكل المصاحبة لعملية كتابة الدستور المصري. فالكثير من هذه المشاكل نابع من عدم تقديم توصيف دقيق للمواد محل الجدل، فمن خلال متابعة الجدل الدائر حول مواد الدستور لا نكاد نسمع سوى "تقييمات" تكاد تخلو من محاولة الوصف الدقيق أو التفسير الموضوعي للمواد محل الخلاف، الأمر الذي انتهى بالجدل حول مسودة الدستور إلى أن تكون مجرد مجموعة من الانطباعات الشخصية المتعارضة التي تهتم بإبداء الرأي بأكثر مما تهتم بسبر غور المعاني والمضامين. وفي الجدل الدائر حول مادة مبادئ الشريعة الإسلامية ما يلخص هذا الوضع بوضوح، فثمة خلاف محموم حول "تقييم" هذه المادة بين التيارات السياسية دون أن ينجح أي منها في تقديم تبرير مقبول لوجهة نظره بطريقة منطقية ومقنعة. فالتراشق بالآراء قد تجاوز كل الحدود واستخدمت في إطاره كل الاتهامات، وذلك دون أن يتبلور نقاش هادئ حول ماهية الشريعة وماهية مبادئها وما الفارق بين الاثنين. القفز على خطوات التفكير السليم لا يمارس من قبل الجمهور المتلقي فقط وإنما يمارس من قبل من قاموا بصياغة الدستور أيضاً، فهؤلاء لا يبررون للناس الأسباب المنطقية التي تدفعهم باتجاه صياغة المواد في شكل دون آخر، فأكثر ما يعنيهم أن يقدموا نصوصا توافقية ترضي أكبر عدد من الأطراف. ويتضح هذا الأمر على سبيل المثال في المادة الخاصة باحتكام أصحاب الشرائع الأخرى إلى مبادئ شرائعهم، والتي هي فضلاً عن ركاكتها تبدو مقحمة على الدستور ومفتقرة إلى التبرير المنطقي، فالواقع أن هذه المادة متحققة فعلياً من خلال مادة الشريعة الإسلامية، والتي تقضي بنفس المضمون الذي تنص عليه. ولكن جاء النص على هذه المادة داخل نفس الإطار الذي يقفز على المنطق ويبتغي التوافق دون أن يحدد ما الذي يتم التوافق حوله. الغريب أن هذه الصياغات التوافقية لم تنجح في إرضاء أحد حتى الآن، ويبدو أنها لن تنجح في المستقبل أيضا، فكل الأطراف تستشعر أنها لم تحصل على ما تستحقه، وكل طرف مازال يستشعر أن الأطراف الأخرى قد صبغت الدستور بصبغتها الخاصة. وقد انعكس هذا على الجماهير فهناك حالة من الارتباك العام بين صفوف المصريين، ففي داخل التيار الواحد توجد آراء متباينة، حتى أصبح من المتعذر قراءة الخريطة التي سيتم على أساسها التصويت على مشروع الدستور الجديد؛ فمن الإسلاميين من أسهم في وضع مسودة الدستور، ومن ثم فإنه يعتبرها أفضل ما يمكن الحصول عليه، ولكن منهم أيضا من يرفضها معتبرا أنها تتضاد مع ما سبق ووعد به ناخبيه من قبل، ومن العلمانيين من أسهم في الجمعية التأسيسية لاختيار وصياغة مواد هذه المسودة ولكنه ربما يحرض أتباعه رغم ذلك على رفضها متى طرحت للتصويت. فكرة أن الدستور سوف يخرج قاصرا عن طموحات كل فريق هو أمر لا يمكن تجنبه، ولكن المسيرة السياسية السليمة كفيلة بأن تصحح أخطاءها مع الوقت وبخاصة إذا ما توافرت الإرادة اللازمة لذلك. أما أن يصبح الدستور مساحة للتنابذ بين الفرقاء السياسيين فإن هذا مما يثير حالة من القلق حول شكل وطبيعة المرحلة المقبلة. ومن هنا فإن أحد أهم أدوار النخبة السياسية في مصر أن تتحول عن التنابذ بالآراء إلى النقاش العقلاني والمتزن حول المضامين، وأن تقدم دستورا منطقيا ومتماسكا حتى لو تمت التضحية في سبيل ذلك بقدر من التوافق الذي يستحيل تحقيقه على نحو مطلق على أي حال.