17 سبتمبر 2025

تسجيل

جولة جديدة من التكاذب الدولي – الإيراني

14 نوفمبر 2011

يحتاج المرء إلى كل سذاجته ليصدّق أن كل هذا السجال، بعد صدور التقرير الجديد عن النشاط النووي الإيراني، تتحدث فيه الدول فعلاً عما تعتقده، فالأزمة بدأت رسمياً قبل سبعة أعوام، أما أسبابها فتتفاعل منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، والأرجح أننا أمام تمديد آخر لها، وإذا صحّت المزايدات الحربية الراهنة بشأنها فلن يعني ذلك سوى الاندفاع إلى أزمة طويلة ومفتوحة لن تحقق سوى دمار كبير. ورغم تغيّر الإدارات في واشنطن والحكومات في أوروبا لم يظهر على الساحة من يريد حل هذه الأزمة بأطروحات خلاقة. في المقابل، رغم التكاليف الباهظة والمرهقة التي يتحملها الشعب والاقتصاد في إيران يبدو أن الأزمة تحقق مكاسب للنظام قد يخسرها في حال وجد حل لائق ومشرف ومجزٍ. فور صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا جديد فيه سوى أنه يبرز هذه المرة فرضية سعي إيران إلى امتلاك سلاح نووي، رددت العواصم المختلفة نداءها إلى مزيد من العقوبات (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة)، أو ضد العقوبات (روسيا والصين)، وهناك من رأى كالعادة ضرورة دعوة إيران إلى جولة مفاوضات حاسمة وبناءة، كجسر مرور لابد منه قبل التوجه إلى مجلس الأمن لفرض حزمة أخرى من العقوبات، وهناك أيضاً من لم يستبعد الخيار العسكري، فاللافت حالياً أن بريطانيا ديفيد كاميرون تبدو متحمسة للعربدات الإسرائيلية بشأن حرب ممكنة خلال الشتاء المقبل، وكأن هوس توني بلير هو كل ما تعلمه زعيم المحافظين من الإرث التعيس لسلفه الأسبق. هل قال تقرير الوكالة شيئاً مفاجئاً كانت أجهزة الاستخبارات تجهله؟ طبعاً لا، فمعلوماته من تلك الأجهزة، وهذه لم تلقمه على الأرجح بكل ما لديها بل بالقليل منه، لذلك جاء التقرير بقرائن لا بأدلة، ما يبقيه أضعف من أن يطرح التحدي على الدول الكبرى التي أكدت دائماً أنها ترفض أن تصبح إيران دولة نووية, بل قيل إن هذا الرفض هو الشيء الوحيد الذي يوحد مواقفها، فلا خلاف عليه بين واشنطن وموسكو وبكين، إلا أن هذا التوافق لم يختبر، ربما لأن طهران لم تحصل بعد على كمية من اليورانيوم عالي التخصيب كافية لأن تثير القلق وتدفع هذه الدول إلى حسم مواقفها. ليس النظام الإيراني وحده المستفيد من الأزمة، إذ تظهره عنيداً وممانعاً وغير مستعد للمساومة على حقه في الحصول على الطاقة النووية (للاستخدامات المدنية والبحثية!)، بل ان العقوبات المتزايدة وقفت عند قطاع النفط والغاز، كخط أحمر، وبالتالي واصلت طهران الحصول على مداخيلها، التي وجدت الصين وروسيا ودول أخرى قنوات لامتصاص معظمها، وكما أن حرمان إيران من دخلها الرئيسي يعني دفعها دفعاً إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي، كما يعني أسعاراً بالغة الارتفاع للنفط في ظل أزمة اقتصادية عالمية، فإنه يعني أيضاً قطع هذا المورد عن الدول المستفيدة، وبالتالي وجوب تعويضها عنه لتوافق على قطعه بغية "شل" إيران، وفقاً لتعبير الوزير الإسرائيلي الأرعن أفيغدور ليبرمان. ما الذي يجعل أربع دول نووية قريبة من إيران، هي الصين وروسيا والهند وباكستان، متعايشة مع جارتها المرشحة للنادي النووي، وغير موتورة مثل إسرائيل، وغير متحجرة في مواقفها مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية؟ هناك ثلاثة أسباب. الأول، أن هذه الدول تعتبر أن تسلحها النووي ضمن لها معادلة الردع المتبادل. والثاني، أنها لا تضع في أولوياتها تغيير النظام في إيران حتى لو لم تكن معجبة به أو متوافقة معه في كل المجالات، والثالث، أن هذه الدول لا تعتبر نفسها معنية بالنفوذ الإقليمي الذي تسعى إليه طهران طالما أنه يصطدم بالنفوذ الأمريكي ويشكل تحدياً له، وفي الوقت نفسه لا ترى خطراً "وجودياً"، على إسرائيل بل أن هذا الخطر يستخدم فقط للمزايدات وبسبب تدخل إيران في قضايا الشرق الأوسط، وباستثناء باكستان التي تهتم بمخاوف دول الخليج من الخطر الإيراني، فإن الدول الأخرى المجاورة تعتبر أن الوجود الأمريكي في منطقة الخليج يتمتع بميزات استراتيجية لن تجازف إيران بمحاولة تغييرها إلا إذا وضعت هي نفسها تحت خطر وجودي. على الجانب الغربي نجد كل ما هو عكس "البراغماتية" التي تنتهجها روسيا والصين والدول الأخرى، ثمة دوافع أيديولوجية وهيمنية تتحكم بالمواقف الأمريكية والأوروبية، فهي تنطلق من رغبة واضحة في تغيير النظام، وتعتقد أن تشديد العقوبات يمهد لإسقاطه. كما أنها لا تزال مسكونة بمطامح استعادة إيران كأداة للنفوذ الغربي، ولو توافر لها ذلك لما مانعت تسلحها النووي، الذي سيكون عندئذ لمصلحة تفوقها الاستراتيجي، ولعل هذين الاعتبارين كفيلان وحدهما بإيضاح فشل جولات التفاوض، كما هي الحال مع كوريا الشمالية، إذ لا يمكن تقديم حوافز اقتصادية وعسكرية ومالية لاستمالة نظام يراد التخلص منه, يضاف إلى ذلك وسواس غربي آخر اسمه إسرائيل التي تواجه تحدياً إيرانياً لمكانتها الإقليمية. لكن الدول الغربية التي أدركت أسباب الاختلاف الإيراني للشرق الأوسط، لا تبدو مستعدة لمعالجتها حتى لو كان في ذلك مصلحة للدول العربية المعتدلة والصديقة، فإيران دخلت الشرق الأوسط من ثغرة فشل "عملية السلام" التي تعاون الإسرائيليون والأمريكيون على تدميرها. وعلى قاعدة هذا الفشل أعادت إيران إحياء خيار الحرب والمقاومة، بل على قاعدة هذا الخيار عرضت على الدول الغربية الاعتراف لها بنفوذ إقليمي، ودعمت ذلك بتأكيد نفوذها في العراق ولبنان وسوريا، وقد استطاعت أن تحقق هذا التوسع حتى قبل أن تحصل على سلاح نووي. بدل أن تتجه الدول الغربية وإسرائيل إلى معالجة المسار السلمي لمواجهة التمدد الإيراني، تركته على العكس يتعفن وينهار وكأنها تتقصد تقديم هدية إلى طهران، بل أنها تغازل فكرة الحرب على إيران ولا تجرّب الضغط على إسرائيل للحد من أطماعها. مثل هذه السياسة لا يمكن أن تعني رغبة أمريكية في حل للأزمة مع إيران، فواشنطن وحليفاتها تستفيد على طريقتها من هذه الأزمة في جانبها الآخر، الخليجي تحديداً، وإلا لكانت غيرّت مقاربتها لها منذ زمن سواء بالدبلوماسية أو بالوسائل العسكرية. وأكثر ما يخشى أن تستمر الإدارة الحالية الفاشلة للأزمة إلى اليوم الذي تجري فيه إيران تفجيرها النووي الأول. عندئذ سيجري التظاهر بأن نهاية العالم باتت وشيكة، ثم يصار إلى التعايش مع الواقع الجديد والضغط على الحلفاء والأصدقاء للتكيّف معه بكل ما يعنيه ذلك من صعوبات وتحديات، لم تكن هناك حاجة لانتظار التقرير الأخير للوكالة الذرية للتكهن عما تخطط له إيران. فهي بكل تأكيد تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، ولذلك تتحمل المخاطر والتهديدات والتكاليف. أما هل أنها تريد هذا السلاح لضرب إسرائيل، فهذه مسألة أخرى، بالأحرى كذبة أخرى.