31 أكتوبر 2025
تسجيلقديمًا حين كان أحدنا يرغب في وصف غيره بالإجرام والوحشية وفساد الظاهر والباطن، كنا نقول عنه أنت شارون، نسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذي مات بعد غيبوبة طويلة، ولكن بعد أن أزهق أرواح الآلاف من الأبرياء في فلسطين ولبنان. اليوم وبشكل لم يكن أسوأ المتشائمين يتوقعه، حل أحد السياسيين الخليجيين محل شارون، وصار هو شيطان الخليج. ولا أقول هذا إلا بعد حادثة وقعت أمامي بين طفلين، قام أحدهما بإغاظة الآخر بإطلاق اسم الشخصية الخليجية تلك عليه، فجاء إلى والدته يشكو زميله الآخر لأنه يردد بين الأطفال أنه فلان بن فلان، أو شيطان الخليج! هذا نموذج بسيط جدًا ومثال ضمن عشرات الأمثلة التي هي نتاج طبيعي حين يتم زج الشعوب في الخلافات السياسية بين الدول، يضاف إليه كذلك شيوع ثقافة الكراهية والضغينة وقطع الصلات والأرحام والعلاقات.. هذا هو واقع الخليج اليوم، ونتاج طبيعي لما كسبته أيدي بعض المشتغلين في السياسة، ممن ليس لهم باع فيها، قُصّار النظر والرؤية الإستراتيجية. لعلكم لاحظتم كمية الفرح والاستبشار التي هلت على الشعوب الخليجية ما إن انتشر خبر الاتصال بين قطر والسعودية، والاتفاق على بدء خطوات عملية لحلحلة الأمور. لكن بدلًا من ذلك، حلت سحابة كبيرة من اليأس بعد دقائق معدودة، مغلفة بكم هائل من الاندهاش لقرار التراجع السعودي، والإعلان عن وقف كل أشكال التواصل والحوار مع قطر لسبب لا يمكن هضمه، وتمثل في أن الصياغة القطرية الإعلامية لخبر الاتصال ما جاء كما يريده أو يفهمه الجانب السعودي! وهكذا بعد ضجة الفرح والاستبشار، ضج الناس تارة أخرى لتلك المراهقة السياسية أو عدم الاتزان في إصدار الأحكام والقرارات والثبات عليها، ودخلت القصة بالتالي إلى قائمة النوادر والقصص الظريفة في أزمة الخليج، والتي كثرت في الآونة الأخيرة منذ أن أشعلت شرارتها، سكاي نيوز أبوظبي في كذبتها المشهورة ليلة 24 مايو الفائت. حادثة أخرى تفاعل كثيرون معها لظرافتها، وفي الوقت ذاته للدلالة على عمق ما وصلت الأمور إليه بين معسكر الحصار والدوحة. تلكم ما وقع من تلاسن بين وزير الدولة للشؤون الخارجية في قطر وبين وزراء ومندوبي الرباعي المتأزم في اجتماع وزراء الخارجية العرب، بالجامعة أو المفرقة العربية الهزيلة أمس الأول الثلاثاء. بعد أن استمع السيد سلطان المريخي وزير الدولة للشؤون الخارجية، لبيانات الرباعي المتأزم، تكلم وعرض الأحداث وما آلت إليه الأمور. لكن بدا أن صدور الرباعي المتأزم، كانت ضيقة حرجة، وما قبلت بوقائع الأحداث التي جاء بها الوزير المريخي والمنطقي من الكلام، فكان التعقيب السعودي الذي غلبت عليه روح الفوقية والاغترار بالقوة، مع لغة تهديد ضمنية واضحة! فيما الآخر الوزير المصري، تحدث مستهجنًا الحديث القطري ومعتبرًا أنه نوع من المهاترات، واستخدم العبارة المصرية المشهورة أو الوهم المعروف بحضارة سبعة آلاف سنة، التي علق عليها مواطنه محمد ناصر، المذيع المعروف بقناة مكملين، متسائلًا عن فائدة تلك الآلاف من سنوات الحضارة على مصر اليوم، وقد صدق المذيع في ذلك. الشاهد من القصة كلها أن الشعوب الخليجية على وسائل التواصل دخلت في عراك ومشاحنات جديدة على خلفية تلك الجلسة بالجامعة العربية، التي ما أظن أحدًا كان سيعرف بها أو يهتم بأن هناك اجتماعا لوزراء خارجية العرب، لولا تعقيبات مندوبي الرباعي المتأزم على كلمة الوزير القطري، الذي لم يقل أكثر مما وقع وحدث خلال المائة يوم المنصرمة على حصار قطر. واضح أن هناك جهات كثيرة مستفيدة من بقاء جذوة الأزمة متقدة مشتعلة، بدليل حادثة الاتصال بين الجانبين القطري والسعودي، وبدليل آخر هو التحرش الذي بدأ من إعلام بعض دول الرباعي المتأزم بدولة الكويت، والرغبة في استدراجها نحو أتون الأزمة وضمها إلى قطر في فريق واحد، لتطول أمد الأزمة ويستفيد من يستفيد، وإن خسرت الغالبية العظمى من أهل الخليج. يبدو لي مما سبق أن الأزمة مستمرة، طالما بقيت ملفاتها تحت سيطرة ذات العقليات التي صنعتها وتتلذذ باستمرارها، والتي تقوم برمي المزيد من حطب النار في فرن هذه الأزمة، مما يعني أن الحوار المنطقي العاقل يبتعد بعض الشيء، وهذا الوضع لا شك أنه سيخدم المستفيدين والمتاجرين بالأزمة كما أسلفنا، وفي الوقت نفسه سيؤدي إلى انكشاف الرباعي المتأزم أكثر فأكثر، على عكس ما يشاع عن توحدهم وترابطهم. وما يحدث بالسعودية الآن من حملة اعتقالات واسعة، ملحوظة للقاصي والداني، بل وغير مسبوقة في تاريخها وبالصورة الحالية، في ظل دعوات إعلامية لحراك سلمي يوم غد الجمعة، إنما هي دلائل على أزمة عدم استقرار غير عادية تعيشها المملكة، وما ذلك كله سوى ما كسبت أيدي البعض فيها، ممن ما زال يتلذذ ببقاء الأزمة ساخنة مشتعلة، تدفعهم وتغذيهم معنويًا أطراف أخرى ضمن المعسكر الرباعي، الذين يرون خسارتهم في أي توافق قطري سعودي قد يقع، وهذا ما لا تريد الشقيقة الكبرى أن تستوعبه، رغم كثرة الرسائل المباشرة وغير المباشرة. بلغة الأرقام والحسابات على الأرض، فإن السعودية أكبر وأكثر المتضررين خلال الشهور الثلاثة الماضية، وما لم يتم ضبط وتوجيه البوصلة السعودية نحو الدوحة من جديد، من بعد طرد كل الأوهام والدعايات المضللة التي تم زرعها في الأذهان عن قطر، فإن السعودية على وشك أن تتورط في أزمات أكبر وأعقد، وسيكون حجم أزمة الخليج الحالية مع قطر مقارنة بما يمكن أن تقع فيها المملكة، أشبه بحجم الأرض إلى الشمس! لكن لا ندعو من هذا الحديث لليأس والإحباط، بل إلى التفاؤل دومًا، والأمر في ظني ما زال بالإمكان تداركه ولكن في حالة واحدة، وتلكم كما أسلفنا قبل قليل، تتمثل في أهمية وضرورة وسرعة حدوث تقارب وتفاهم قطري سعودي من جديد، بعيدًا عن الثلاثي وتأثيراتهم الضارة المضرة، ويتم خلال ذلك تصفية الأذهان من الشكوك والأوهام، والتخلص من روح الأنا أو الفوقية والتعالي، ومن ثم البدء بالتخاطب بلغة العقل والمنطق والمصلحة المشتركة، وهذا بالضرورة سيؤدي بالشقيقة الكبرى لأن تخرج من معسكر الحصار وتترك القاهرة وأبوظبي، فإن حصار قطر الذي كان يؤمل أن يأتي بنتائج محددة بحسب مخططات غلب عليها الوهم، قد يوشك أن يتحول لحصار شديد كاتم قاتم على السعودية، إذ حين تقع الفأس على الرأس، فلن تجد الرياض ساعتئذ، لا أبوظبي أو قاهرة ولا منامة أو حتى إنجامينا!! ولمن لا يعرف الأخيرة، هي عاصمة تشاد.