11 سبتمبر 2025

تسجيل

معادلة الإخلاص والصواب: "أحرار الشام" مثالاً

14 سبتمبر 2014

"إن من شيوخي مَنْ أستنزلُ بهم المطر ولكن لا أقبل شهادتهم".. بهذه الجملة القصيرة والمُعبّرة التي صدرت عن أحد علماء المسلمين منذ قرون، يمكن وضع قاعدة ذهبية لتجاوز المأزق الناتج عن الخلط بين مسألتي الإخلاص والصواب، خاصةً عند الحكم على الأفكار والمواقف الصادرة عن البشر، أياً كانوا وأياً كانت مواقعهم في المجتمع.كانت تلك المقولة محاولةً عبقريةً مبكرة لإدراك خطورة ذلك الخلط، ليس فقط على محاولات المسلمين لتنزيل قيم الإسلام ومبادئه على واقعهم المعيّن بالشكل المطلوب، وإنما أيضاً على أصل التصورات الإسلامية في العقول والقلوب. إذ إن من المستحيل فَهم آفاق وأبعاد ومقاصد تلك التصورات، من خلال التركيز القوي والمستمر على معاني الإخلاص لها، والرغبة الصادقة لتحقيقها وحمايتها، في غياب الأدوات العقلية والعلمية التي تساعد عملياً على تحقيق ذلك الحفظ وتلك الحماية.ثمة ضغطٌ نفسيٌ وعمليٌ شديد على السوريين بشكل عام، وعلى الإسلاميين منهم تحديداً، يجعل مجرد الحديث في مثل هذه القضايا مدخلاً للاتهام والشكوك وسوء الظن، خاصةً إذا تجاوز الكلام الطروحات النظرية المجردة، ودخل في تفاصيل الأمثلة الواقعية. وما من شكٍ أن مجرد قراءة عنوان المقال ستكون، لدى البعض، مدعاةً للغضب والتبرم، والإعراض عن متابعة القراءة في أقل الأحوال. سيما حين يأتي الكلام بعد أيام من استشهاد قادة "أحرار الشام" بشكلٍ أثار مشاعر الحزن والأسى لدى شريحةٍ واسعة من السوريين.وحتى نختصر التقديم للموضوع، نؤكد اعتقادنا بأن إنشاء الحركة وتاريخها وممارساتها ومآلاتها الراهنة تُشكل جميعاً مثالاً تطبيقياً صارخاً على ملابسات الخلط بين مفهومي الإخلاص والصواب.كان تشكيل الحركة من البداية متميزاً عن غيرها، وذلك بعاملٍ أساسي يتمثل في اجتماع شريحةٍ من الثوار السوريين المشهود لهم بين معارفهم بالإخلاص. ومع الفوضى العارمة التي صاحبت إنشاء كثيرٍ من الفصائل الأخرى، وما رافق ذلك من أحداث ومعلومات وممارسات تتعارضُ، من قِبل أهلها، مع مقتضيات الإخلاص بشكلٍ أو بآخر.. استقطبت الحركة مزيداً من الكوادر التي كانت أقرب إلى معاني الإخلاص ومقتضياته. ولئن كان الإخلاص في جوهره أمراً قلبياً بين المرء وربه، إلا أن تلك المقتضيات تظهر في معاني التجرد والتواضع وإرادة الخير للناس، ودرجة تستطيع الشعور بها من صلة المرء بخالقه، والالتزام بما يؤمن به من مبادئ.. وغير ذلك من الظواهر التي كانت شائعةً في أوساط الحركة، خاصة في صفها القيادي. هذا ما اتفق عليه كثيرون ممن يثق المرء برأيهم، وهو ما ظهر لي شخصياً في لقاءات قليلة مع بعض القيادات أيام العمل في أوساط المعارضة، ومع بدايات تشكيل الحركة.بالمقابل، كانت الحركة مقتنعةً تماماً بفكرة إقامة (الدولة الإسلامية) في سوريا منذ البدايات. ورغم كل الحوارات المتعلقة بافتقاد تلك الفكرة إلى الواقعية من منطلقاتٍ إسلامية وسياسية وعملية، بقيت الحركة متمسكة بالفكرة فترةً طويلة. وصاحبَ هذا التفكير زهد كبير في أي تعاون مع القوى المختلفة للثورة السورية السياسية أو العسكرية، ولو في بعض المجالات، أو إنشاء قنواتٍ للتواصل معها، بلغة الخطاب الوطني ومفرداته. فقد كان الرفض واضحاً لكل ماله علاقة بالخطاب الوطني المذكور في أي مجالٍ من المجالات، وكان التمسك شديداً بـ (إسلامية) الثورة، والتحرجُ ظاهراً من كل فكرةٍ أو تجمعٍ أو حتى شعارٍ لا يؤكد على تلك الإسلامية.كانت الحركة إذاً منسجمةً جداً مع نفسها فيما يتعلق بمبلغ علمها من فهم الإسلام وفهم الواقع المحلي والدولي، لكنها كانت تحاصر الإسلام في فهمٍ طهوري جهادي يُبسِّط دوره في الأرض، ويضعه بين احتمالين: فإما إقامة دولةٍ على صورة دولة الخلافة الأولى، أو تقديم الروح رخيصةً دون ذلك.وكان كثيرٌ من أفرادها نماذج في الرقي عند التعامل الشخصي مع آخرين ينتمون لمدارس مغايرة في التفكير، لكنها لم تكن قادرةً، كحركة، على تصور إمكانية للتعامل التنظيمي مع مؤسسات خارج إطار منظومتها الفكرية.ورغم استحالة وضع المسؤولية عليها وحدها فيما يتعلق بعدم قدرة الفصائل الجهادية على الوحدة، إلا أن ثمة معلومات متواترة تؤكد أن موقفها المتردد كثيراً ما أخَّر أو ألغى مشاريع للوحدة على مدى قرابة عامين. الأمر الذي يطرح تساؤلاً آخر حول صوابية مثل هذا الموقف من منطلقات إسلامية وواقعية على حدٍ سواء.أما موقفها من (داعش) فقد كان أيضاً، في البدايات، من أسباب تمكين ذلك التنظيم من التمدد والتمكن. هنا مثلاً، ظهر تأثيرُ الإخلاص في مجانبة الصواب. فرغم تكرار الحوادث والأمثلة والوقائع، وتصاعد دلالاتها على خطورة داعش، ليس فقط على سوريا وثورتها، بل على الإسلام والمسلمين، ظلت مقولات (حُسن الظن) و(تجنب اقتتال الإخوة) تُعلنُ مرةً بعد أخرى لتبرير التردد الطويل في التعامل الحاسم مع التنظيم، حتى جاء اليوم الذي انقلب فيه الوضع بشكلٍ كامل، ولكن تحت ضغط الواقع العملي، وبعد فوات الأوان.ثمة تفصيلٌ في الموضوع لا يحتمله المقامُ هنا، ورغم احتمال مسارعة البعض إلى الطعن في الكلام أعلاه إلا أن المرء مطمئنٌ إلى صدوره من متابعةٍ ومعرفة بواقع الحال، بعيداً عن (التفكير الرغائبي) الذي يمكن أن يُلبسَ من تُحبهُ بسبب (إخلاصه) لَبوسَ الصواب الكامل.أكثر تعبيراً من هذا، تأتي الوقائع العملية، خاصةً خلال الشهور الأخيرة، ومعها (المراجعات) التي ظهرت في نفس الفترة بشكلٍ متفرق، دليلاً على صحة الطرح الوارد هنا، ولو بدرجةٍ من الدرجات. ربما يكون القبول بـ "ميثاق الشرف الثوري"، بعد جهود مكثفة وطويلة، وبخطابه الوطني الواضح، أكبر دليلٍ عملي على ذلك.