14 سبتمبر 2025

تسجيل

ملامح قرآنية في ثورات الأنبياء (3)

14 يوليو 2013

عندما تحدث القرآن عن الثائرين في وجه الباطل ذكر جملة من الأنبياء الذين صدعوا بالحق، فذكر نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى، ومحمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، وذكر هؤلاء الأنبياء جميعا في أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفصل في بعضها وأجمل في البعض الآخر، وهؤلاء الأنبياء ثاروا في شعب وأنظمة حاكمة، حيث جاءوا إلى بيئة حكمت بلون من ألوان الفساد الذي صار قانونا، فخاطبوا الشعب وخاطبوا سادته الذين يقومون على أمره، وبمقدار حجم هذا الشعب والفساد المستشري فيه والدروس التي تفيد المسلم إلى يوم القيامة جاء التفصيل والإجمال. ويلاحظ في ثورة الأنبياء أن فترتها الزمنية اختلفت من بيئة لأخرى، ومن نبي لآخر، فنوح عليه السلام ظل ثائرا ضد الباطل ألف سنة إلا خمسين عاما، والأنبياء الآخرون كانت ثورتهم ضد مظاهر الفساد أقل بطبيعة الحال، وأعتقد أن السبب في ذلك والله أعلم أن الله أراد أن يعطينا نموذجا للثائر الصابر على ثورته، ففساد الأقوام كان كبيرا، فكلهم مشركون بالله، وعندهم فساد أخلاقي واجتماعي يوجب الثورة. كما يلاحظ في ثوراتهم أيضا أنها حاربت الطبقية وطغيان الحاكم على الشعب، فقوم نوح كانت الطبقية منتشرة فيهم، فالسادة يستنكفون أن يؤمنوا مع العبيد ليجلسوا معهم، وطلبوا من نوح عليه السلام أن يطردهم من مجلسه، فقال لهم: (وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ) هود: 31 ورد فرعون على موسى ردا مشابها فقال: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الشعراء: 112 وسمى الثوار الذين ثاروا مع موسى (شرذمة) وجعل إعلامه ينادي بذلك: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ *وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) الشعراء: 53 – 55 ويلمح أيضا في ثورات الأنبياء أنها حاربت الفساد العقدي والأخلاقي والاجتماعي، فكل نبي أتى دعا إلى عقيدة التوحيد (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء 25. ثم تكون ثورة خاصة لكل نبي يقاوم فيها مظهرا من مظاهر الفساد التي انتشرت في قومه، فلوط عليه السلام ثار في قوم كانوا يستحلون الرجال من دون النساء، ويفعلون الموبقات، وقالوا ردا على ثورة لوط عليه السلام: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) النمل: 56 وشعيب عليه السلام ثار في قوم يطففون الكيل والميزان ويبخسون الناس أشياءهم ويسعون في الأرض مفسدين، وعندما بين لهم شعيب فساد فعلهم أعرضوا عنه وهددوه. كما يلاحظ في ثورات الأنبياء ضد الفساد والطغيان أن الطاغية الفاسد يفتقر إلى وسائل الإقناع والحجة والبرهان، ولذلك لا يحب أن تقال أمامه كلمة الحق ويحب بطانة السوء، وعندما يعجز يلجأ إلى القوة ليقضي بها على الثائر ويظل متحكما طاغيا مستبدا في شعب خامل مغلوب على أمره، وقد بين القرآن ذلك في أمثلة متنوعة، فنوح عليه السلام قال له قومه: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) ثم هددوه صراحة فقالو: (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) وإبراهيم عليه السلام ثار على أبيه الذي فقد الحجة على عبادته الأصنام ليهدد خليل الله قائلا: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا). أما فرعون فقد زينت له بطانته سوء عمله فرآه حسنا، حتى ادعى الألوهية كما هو معرف، ولقد بدأت ثورة موسى على فرعون بالحوار الذي فشل فيه فرعون، وسخر منه في البداية، ثم استخدم التهديد لموسى فقال له: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) وتطور الأمر إلى المناظرة بين سحرة فرعون وموسى؛ لينتصر الثائر الحق، ويؤمن سحرة فرعون، ويهيج الطاغية ويمارس قوته وحربه ضد الثائرين الذين آمنوا بالله الواحد الجبار. وهذا الملمح أيضا يتضح في قصة شعيب عليه السلام، حيث إنه لما حاور قومه، وجد الإجابة: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز). تلك كانت بعض ملامح ثورات الأنبياء كما حكاهاالقرآن، وهذه الملامح سمعنا كثيرا منها في ثورات الربيع العربي التي استخدم فيها الحكام الطغاة القوة الباطشة وأطلقوا على الثائرين (الجرذان – والجراثيم –الإرهابيين – المخربين...إلخ) وما أشبه الليلة بالبارحة والتاريخ يعيد نفسه، فاعتبروا يا أولي الأبصار والحديث موصول إن شاء الله.