26 أكتوبر 2025

تسجيل

ما أريكم إلا ما أرى.. شعار كل فرعون

14 يونيو 2018

بدأ الديكتاتور يتململ من أمر موسى عليه السلام، الذي بدأ يظهر وينتشر بين الناس، ودخل فرعون في حوارات ونقاشات حادة مع آله حول موسى وأمره ودعوته، فلم يكن يطيق سماع رأي غير الذي يراه، بل لم يكن يتصور أن أحداً من آله يرى رأياً يخالفه، كما في قصة مؤمن آل فرعون الذي انتهى الجدال به معهم إلى أن يستنكر عليهم فكرة بدأت تدور في اجتماعاتهم (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله). هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة، كما يقول الأستاذ سيد قطب — رحمه الله — في تفسير ظلال القرآن:" تأخذه العزة بالإثم ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، ونقصاً من نفوذه ومشاركة له في النفوذ والسلطان (قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).. إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً وأعتقده نافعاً. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟! تستمر المشاهد الفرعونية من بعد أن قرر فرعون لآله وبقية الشعب، أن ما يراه هو الصواب لا غيره.. وتستمر رغم ذلك وتدور النقاشات في مجلسه حول موسى وتأثيره المتعاظم، فما كان منه هذه المرة إلا أن:" قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون". يريد بذلك السؤال، رغم أنه قرر وحسم مسألة الرأي الوحيد الصائب في البلاد، وكعادة أي ديكتاتور عندما تنفذ حججه أمام المعارض الخصم، يبحث عن تفويض شعبي لتنفيذ ما يدور بذهنه، لا لقناعته برجاحة آراء الناس ولكن كي لا يقرر ما بذهنه بشكل مباشر منفرد، وحتى يتحدث الناس عن فرعون أنه زعيم ديمقراطي، يسمع ويناقش ويطرح الأمور العظيمة على الناس ويستفتيهم ويأخذ برأيهم، على الرغم من قراره السابق الحاسم قبل ذلك فطرح أمر موسى عليه السلام على من حوله، ينتظر ما يقولون.. بطانة السوء حول فرعون وافقوا أهواء ورغبات الزعيم، وساندوه واتفقوا على ما يراه في موسى عليه السلام، وأنه بالفعل ساحر وفاسد مفسد لا يريد الخير للبلاد ولا العباد!! لكن رغم كل هذا الظلم والاتهام الجائر وفي مثل تلك الأجواء، يظهر صوت الحق بصورة وأخرى، لينادي: "قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين". ظني أن فرعون لم يكن يتمنى سماع مثل هذا الاقتراح المحرج، لأنه حين عرض أمر موسى عليه السلام على من حوله، ظن أن الجميع سيتوافقون معه في الهوى والرغبة، وسيطالبون بحل ناجع كما يدور في ذهنه ما بين التخلص منه بالسجن أو الاعتقال أو النفي أو الأكثر حسماً هو القتل.. لكن الديمقراطية التي أراد فرعون أن يستفيد من اسمها في تجميل صورته، أزعجته ها هنا، فكان لابد، وحتى لا يُحرج نفسه وأنه يناقض قراراته، أن يوافق على المقترح.. جاء يوم الزينة، حيث الألوف من الشعب تنتظر أن ينتصر فرعون ليهتفوا بحياته وعزته. لكن فرعون ومن معه بدأوا بعد قليل من بدء الحفل يرون مشهداً ما خطر على قلوبهم جميعاً، ولم يعدوا له العدة المناسبة لمواجهته.. لقد تحول السحرة المجرمون المعادون لموسى ودعوته في دقائق معدودة، إلى أتباع له. آمنوا به وكفروا بفرعون ولو كره ذلك هو ومن معه.. فقد كانت ساعة حاسمة وكان مشهدا عظيما يحدث بقدرة الله أمام الناس، وإن كان بترتيب مادي من فرعون ومن معه.. فأرادوا أمراً وأراد الله أمراً آخر.  حينذاك انقلب فرعون من فوره على الديمقراطية من هول وشدة ما يرى، وتعمق في الظلم والضلالة بعدها، وأمر بقتل السحرة، وأشاع الفوضى والرعب بين الناس حيناً آخر من الدهر لكنه لم يدم طويلاً، إذ جاء أمر الله بعد ذلك المشهد أن تقع حوادث متنوعة كانت آخرها حادثة غـرق فرعون ومن معه في اليم، وغرقت معهم أحلامهم وأفكارهم، وانتصر الحق نهاية الأمر، كما هي قوانين هذه الحياة، حيث الحق لابد أن يسود وإن طال الزمن.. فكم فرعون من فراعنة هذا الزمان يدرك هذه القوانين والسنن الإلهية، وكم ظالم يتفنن ويتلذذ في إلحاق الأذى والضر بالناس يدرك، أن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر، فمهما ظلم وتجبر، فإن الله يمهله ولا يهمله، حتى إذا أخذه لم يفلته.