18 سبتمبر 2025
تسجيلكم يؤرق البلاء والحزن فينا جفونا، ويريق من عيوننا عيونا.. حين نسْتلُّ ذكرى أُغمِدَتْ بتجارب مريرة.. يضيق الصدر ولا ينطلق اللسان.. البلاء حكمة الله في عباده، تلكم سنة ماضية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. هجر الأوطان بلاء عظيم وأي بلاء هو.. في الأثر ورد عن الرسول صلي الله عليه وسلم في حديث ما معناه وهو يهاجر من مكة المكرمة مخاطبها: (إنك أحب بقاع الأرض إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما تركتك).. الشاعر أحمد شوقي يقول منشداً:"بلادي وإن جارت عليا عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليا كرام"فلم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رحلةً خلويةً، ولا سياحةً ترفيهيةً، يعود الإنسان بعدها إلى بيته منشرحَ الصدر، متجدِّدَ النشاط لاستئناف العمل واستمرار الحياة، كذلك لم تكن بعدًا عن وطنٍ وانتقالاً إلى وطنٍ أفضل منه.. بل هاجروا من وطنٍ أحبُّوه بكل مشاعرهم، وأرضٍ طاهرةٍ قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراث الأنبياء.. الوطن ليس هو وطنك فقط، ليس مسقط رأسك، أو المكان الذي يعيش فيه الأهل، أو مكان الرزق.. ليس حب الأوطان مشاعر سلوك يقترب من حدود الشعر.نعم الحزن سواء بمفارقة الأوطان أو بغير ذلك سواد يرخي سدوله على القلب، كما يغشى الليل الأرض كل مساء.. حينها يتوقف قلبك عن النبض وأنت أحوج لتلك الدقات القلائل لتقاوم انحدار الدموع.. الحزن إحساس قاتل يزعجك من الماضي، ويخوفك من المستقبل ويذهب عليك يومك.. بلاء هجر الأوطان فيه حزن ينقبض له القلب، ويعبس له الوجه وتنطفئ منه الروح، ويتلاشى معه الأمل.يوما، بدا صوت صديق عمري الذي أفضي له ويفضي إلي جريحا بمشاعر قلق في دواخله أكاد أسمع صريره.. كانت في رأسه الأفكار والهواجس والخواطر دوامات ورياحا ومطرا.. حالة صديقي النفسية المتأهب لهجر الوطن والعشيرة جعلتني أستمع له حتى النهاية دون أن أشعر بأن التفاصيل الدقيقة أحيانا أثقال حديد تشد إلى الأرض.. إعطاء الهموم فسحة لتخرج مهم جدا، فالتعبير عن الهموم يجعل صاحبها يتخفف من الضغوط النفسية التي تتسببت فيها تلك الهموم. لكن هل يستسلم المرء لدوامة الحزن ويدور في دائرة الفعل السلبي؟.. ما هي السعادة النقيض المقابل للحزن؟ يقول الفارابي: "السعادة هي غاية ما يتشوقها كل إنسان، وأن كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحو على أنها كمال أقصى".. ويلاحظ أرسطو من جهته أن "عامة الناس وحكماءهم يتفقون على جعل السعادة الهدف الأسمى المنشود، لكن الآراء تختلف حالما يتعلق الأمر بتحديد طبيعة السعادة".. تتحقق السعادة عندما نفهم هذه الدنيا فهما صحيحا.. فالدنيا لا تخرج عن كونها سوادا وبياضا، مثلما هي قصور وكهوف، وظل وحرور، وغنى وفقر، وقوة وضعف.. لكن، ألا نرى أن السحاب الأسود ينقشع، والليل البهيم ينجلي، والعاصفة تهدأ؟.. فالشدائد إلى رخـاء والعيش إلى صفاء ونعماء.. هذه هي الدنيا.. لكن من فضل الله علينا أن السعيد ليس ذلك الذي تُسعده دنياه، وإنما السعيد الذي ينجو من النار.. فالله منّ على قلوبنا بمعرفة أنه الله ذو الآلاء والقدس. ظللت أتعجب كثيرا بل أتأمل في ذهابي وإيابي من العمل كل يوم حينا من الدهر ذلك الكوخ (العشة) المكون من غرفتين قوامهما مخلفات مواد البناء.. صاحب الكوخ كان كما يبدو يعمل حارسا لعمارة تحت التشييد.. هذا الرجل له قدرة فائقة على تحدي الفقر، وهو أصعب أنواع البلاء.. في العيد كان لذلك البيت بهاء ورونق بديع.. عندما عدت ليلا أو في الساعات الأولى من أول أيام أحد الأعياد كانت العشة محاطة بالزينة المتلألأة الآخاذة.. الرجل صاحب (العشة) الذي يفيض تفاؤلا وغبطة وحبا للحياة أحاط عشته بأشكال وألوان بهية من الزروع، ورودا وأزهارا.. هذا الرجل البسيط جعل من قصيدة إيليا أبو ماضي (الغبطة فكرة) واقعا معاشا: أيّها الشاكي الليالي إنَّما الغبطةُ فِكْرَهْ ربَّما اسْتوطَنَتِ الكوخَ وما في الكوخِ كِسْرَهْ وخَلَتْ منها القصورُ العالياتُ المُشْمَخِرَّهْ تلمسُ الغصنَ المُعَرَّى فإذا في الغصنِ نُضْرَهْإن فلسفة السعادة الحقة تكون بمعية ربانية.. بين الإنسان وربه إحساس بالراحة والطمأنينة والأنس بالله ومع الله والرضا بقضاء الله وقدره والصبر على السراء والضراء وحب الخير للناس بتمني السعادة لهم كما نتمناها لأنفسنا.. إذن فلسفة السعادة لا تقوم على سعادة الفرد فحسب، ولكن تقوم على سعادة الآخرين.. لنذكر دائماً أنه من أراد أن يقطف العسل لا يجب عليه أن يحطم خلية النحل.. قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".