11 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما تنحرف الصحافة عن رسالتها النبيلة

14 يونيو 2014

ما زالت الحملة الإعلامية الغربية بصفة عامة والبريطانية بصفة خاصة ضد استضافة دولة قطر لكأس العالم 2022 تثير الكثير من الجدل والنقاش حول انحراف الممارسة الإعلامية عن رسالتها النبيلة عندما تتدخل في أجندتها حسابات ومعايير أخرى غير البحث عن الحقيقة وكشف المستور. فبدلا من التركيز على الفساد المنتشر في الفيفا (الاتحاد الدولي لكرة القدم) راحت الصحافة الغربية من دون حق وبدون أدلة دامغة تتهم وتنال من سمعة قطر بعيدة كل البعد عن الحرفية وأخلاقيات المهنة. في منتصف القرن الماضي تجاوزت الصحافة الأمريكية حدودها مما أدى بالساهرين على تطبيق التعديل الأول الأمريكي بإنشاء "هوتشينس" التي نظرت في الهفوات والأخطاء والممارسات التي خرجت عن العرف والتقاليد العامة لأخلاقيات الصحافة. ونتيجة لتقرير اللجنة ظهر مفهوما جديدا في قاموس الصحافة وهو مصطلح المسؤولية الاجتماعية للصحافة وكان هذا سنة 1947، وبعد خمسين سنة بالضبط وجدت الصحافة البريطانية نفسها أمام أزمة أخلاقية حادة أدت إلى نقاش جاد وصريح بين محترفي المهنة وبين النقاد والمشرفين على الصحف والمجلات وكذلك المختصين في شؤون قانون الصحافة وأخلاقياتها. والأمر هذه المرة كان خطير حيث إنه مسّ الأميرة ديانا والعائلة المالكة. وآخر ضجة عرفها المجتمع البريطاني هو ظهور كتاب "الملكيون" للكاتبة كيتي كيلي حيث جاء ليكمل ما تركته صحافة الإثارة وليكشف للعام والخاص عورة العائلة المالكة بكاملها والأميرة ديانا على وجه الخصوص. تتميز الصحافة الغربية وعلى وجه الخصوص الصحافة الجادة بالتنقيب والاستقصاء والتحري Investigative Reporting لتلبية فضول القراء لمعرفة حيثيات الأمور وما يجري في المجتمع من تجاوزات وتناقضات وكذلك لمراقبة رجال السياسة وأصحاب السلطة والنفوذ والجاه والمال على التجاوزات واستغلال مناصبهم ونفوذهم لتحقيق أهدافهم الخاصة على حساب المصلحة العامة. من حيث المبدأ تظهر الأهداف نبيلة وشريفة، حيث استطاعت الصحافة الغربية أن توظف هذه الأهداف النبيلة في أرض الواقع. والأمثلة كثيرة على ذلك مثل استقالة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وانسحاب "غاري هارت" من الانتخابات الأمريكية وهذا غداة كشفه أمام الرأي العام الأمريكي أنه قضى عطلة نهاية الأسبوع مع عشيقته "دونا رايس"، والأمثلة كثيرة ومتشعبة. وبطبيعة الحال ومن خلال هذين المثالين نلاحظ أن الصحافة الأمريكية خدمت المصلحة الوطنية قبل كل شيء من وراء هاتين القضيتين. فمن يخون زوجته بإمكانه أن يخون الأمة بكاملها، ومن يتجسس على غيره فإنه لا يصلح لرئاسة الدولة. فنلاحظ هنا أن حرية الصحافة وضرورة توفير المعلومة للرأي العام ومراقبة المجتمع تمثل أحد نقاط القوة في المجتمعات التي تؤمن بالديمقراطية وبحرية الصحافة كمستلزم رئيس لهذه الديمقراطية. السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا يحدث إذا تلاعبنا بهذه المبادئ وهذه الحرية لتحقيق أهداف ليست هي بالضرورة أهداف الغالبية العظمى من المجتمع وليست هي الأهداف النبيلة للصحافة والإعلام. فالإشكال المطروح هنا هو أن الصحافة الصفراء وصحافة الإثارة استغلت مركزها في المجتمع ونفوذها لتحقيق أهدافها بالدرجة الأولى وهذه الأهداف تتمثل في المبيعات وبذلك الإعلانات وبذلك الربح. فتدخل صحافة الإثارة والتابلويد في خصوصية المشاهير ورجال السياسة والأعمال أثار ضجة كبيرة في الأوساط الإعلامية والسياسية البريطانية بصفة خاصة، والغربية بصفة عامة. وجاء رد الفعل عنيف حيث إن الجهات المختصة في المملكة المتحدة اتخذت إجراءات صارمة لتنظيم وتقنين العملية الإعلامية من دون المساس بطبيعة الحال بحرية الصحافة وبحرية الرأي والنقد. ففي مؤتمر صحفي أعلن اللورد "جون وايكهام" رئيس اللجنة الصحافية البريطانية للشكاوي ورئيس لجنة مراقبة الصحافة عن الإجراءات الجديدة التي أخذتها اللجنة لتضع حدا لتجاوزات الصحافة وتكرار مأساة ديانا. وشملت هذه الإجراءات حماية الحياة الخاصة للعائلة المالكة وللمشاهير ورجال الأعمال والسياسة،و الأطفال وضرورة القضاء على سوق صور البابراتزي التي تلتقط بطرق لا تمت بأية صلة لأخلاقيات الصحافة والسلوك الإعلامي المسؤول. وهكذا جاءت مأساة ديانا وبعد فوات الأوان بنتائج تحمي أولادها وتحمي غيرها من الاستغلال البشع لصور تُباع بمئات الآلاف من الدولارات، بل في بعض الأحيان بالملايين. وهكذا جاءت لجنة مراقبة الصحافة مثلها مثل لجنة "الهوشتينس" في الولايات المتحدة سنة 1947 بقانون جديد للممارسة والسلوك الإعلامي. وكان رد فعل الناشرين وأصحاب الجرائد وكبار المحررين البريطانيين جد إيجابي حيث رحب الجميع باقتراح اللورد "وايكهام". لكن كيف سيكون التطبيق في أرض الواقع خاصة وأن الصحافة الصفراء تقوم أساسا على أخبار المشاهير وخصوصيتهم وأخبار الإثارة والجنس والمال. يرى الخبراء والمختصون في شؤون قانون الإعلام وحرية الصحافة، أنه ليس بالأمر الهين تحديد أين ينتهي حق الفرد في الخصوصية وأين تبدأ حرية الصحافة. ففي بعض الأحيان يأخذ الأمر وقتا طويلا ودراسة ومناقشة مستفيضتين لتحديد هل يجب علينا كصحافيين أن نكتب خبر حول المسألة الفلانية أم لا؟ وفي هذه الحالة قد يضيع الصحافي فرصة تغطية خبر يكون ذا أهمية للمجتمع ولحق الفرد في المعرفة. والإشكال الرئيس الذي يواجه المهنة هو أن هذا القانون الذي وضعه المسؤولون في بريطانيا تقل أهميته ووزنه إذا لم تعمل به دول أخرى عبر العالم. فصور البابراتزي لها سوق عالمي وتباع في أهم عواصم العالم فإذا منعت في لندن وبيعت في روما فما الفائدة، وأين هي الفائدة كذلك إذا لم يشمل هذا القانون الإنترنت والإعلام الإلكتروني بجوانبه المتعددة والمتشعبة - البث الفضائي-التلفزيون الكابلي والمشفر...الخ. فبين حق الجمهور في المعرفة وحق الفرد كذلك في حرمته الخصوصية يوجد تناقضا كبيرا من الناحية العملية. ومنهم من يرى أن أي قوانين أو إجراءات تنظيمية لممارسة المهنة الصحافية ستحد من حرية الصحافة وسيستغل أصحاب النفوذ والجاه والمال مثل هذه الإجراءات للتهرب من التحقيقات والاستقصاءات حتى لا تكشف الصحافة عن أعمالهم التي قد تناقض القانون والأخلاق والصالح العام. والملاحظ هنا أن معظم مواثيق الشرف ومجالس الصحافة عبر العالم قد ركزت على مسؤولية الصحافة أمام الجمهور، ومسؤوليتها أمام المصادر، والدولة والموظفين كما ركزت كذلك على دورها الرائد في حماية النزاهة والالتزام المهني وكذلك العمل على حماية مكانة المهنة ووحدتها في المجتمع. والمقصود هنا بحرية الصحافة أمام الجمهور هو واجبها نحو هذا الجمهور بتزويده بالمعلومات الضرورية سواء لتشكيل الرأي العام أو لمعرفة ما يدور حوله سواء محليا أو إقليميا أو دوليا، وهذا يعني أن الكلام لم يكن موجها نحو موضوع الخصوصية وحرمة الحياة الشخصية لكل فرد في المجتمع سواء كان شخصية عمومية أو من عامة الناس. لكن بين ما تسنه وتسطره مواثيق الشرف ومجالس الصحافة وبين الممارسة في الواقع هوة تكبر أحيانا وقد لا تكاد تذكر أحيانا أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي الخدمة التي تقدمها الصحافة عندما تغطي خصوصية الآخرين، خاصة إذا كانت الأمور تتعلق بالروتين والحياة العادية للنجم السينمائي أو للسياسي أو لرجل الأعمال. فإذا كانت التغطية لا تكشف عن عملية فساد أو رشوة أو تجسس أو استغلال نفوذ، أي بمعنى أخر التصرفات التي تضر بالصالح العام، وإنما هي تغطية تافهة تستغل من قبل صحافة الإثارة لزيادة المبيعات وزيادة القراء والمشتركين وبذلك زيادة حجم وسعر الإعلانات، ففي هذه الحالة نلاحظ أن الصحافة ابتعدت - بمختلف المقاييس والمعايير- عن مهمتها النبيلة في المجتمع. ومن هذا المنطلق يجب على مواثيق الأخلاق ولجان الصحافة عبر العالم أن تقنن وتنظم تعامل الصحافة مع الحياة الخصوصية للناس وهذا من دون المساس بحرية الصحافة في الكشف عن الحقيقة والدفاع من خلال عملها على الصالح العام. فقياس الغرض وتحديده في هذه الحالة يعني أن الغائية والهدف والقصد من وراء تغطية خصوصية الناس هو خدمة الصالح العام أم خدمة الإثارة وزيادة المبيعات والأرباح.