12 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة النخب العربية

14 مايو 2020

تعكس حقيقة مجتمع النخبة من خلال قربه وبعده من العموم، واستطاعته الاقتراب من آلام الناس وتطلّعاتهم ومحاولته الجادة لإيجاد حلول لها، وقدرة المثقف أو المفكّر على بناء مشروعٍ يترجَم إلى ثقافة فاعلة، تكون علامة في الناس ودائرةً لتفكيرهم واهتماماتهم. يذكر الفيلسوف الألماني هربرت مركيوز -في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"- أن الإنسان الحديث مؤدلَجٌ بطبعه، وأن دعوة الحرية التي تتغنى بها الرأسمالية والليبرالية ليست حقيقة، وإنما هي لعبة تمارَسُ ضدّه فتسوّر إرادته الحرّة، وتوجّه أفكاره نحو ثقافة وطريقة تفكير ماديّة محددة، حتى صارت سمة العالم أنه يفكّر بطريقة "أحاديّة البعد". أزمة النخبة وتبدّلات التاريخ: تعتمد مدارس فلسفة التاريخ تفسيرات مختلفة لظهور واختفاء الأطوار التاريخية، فقد اعتمد ماركس نظريّته في تغيّر وسائل الإنتاج وانعكاساته سببًا أساسيًّا في تبدّل الدور التاريخي على نحو حركي دائم، إلا أن هذه الفكرة انهارت نظريًّا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي عمليًّا، وذلك بتغيّر الحكم الاشتراكي إلى شكلٍ جديدٍ من طبقات ومسؤولي الدولة والاستبداد والمنتفعين. وفي المقابل؛ رأى أرنولد توينبي تفسيرًا أن تبدّل الحضارة يكون بدايةً بسبب ضعف النخبة التي توجّه الحضارة وانقلابها إلى سلطة تعسفية، إضافة إلى انفضاض الشعب عن تأييد النخبة ورفض محاكاتها، ليؤدي الانشقاق وتفتّت المُجتمع دوره في السقوط الأخير. وبهذا؛ فإن توينبي يرى في فشل النخبة في توجيه المجتمع وصنع آرائه سببًا في السقوط الحضاري، ويؤكّد أن انفكاك النخبة عن إلهام المجتمع أحد أسباب هذا الفشل. إن ترسيخ الوعي العام والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة، والدفاع عن قيم الحرّيّة وحقوق الإنسان، وربط المجتمع بعمليّة النهوض الفكري والحضاري؛ من أهم أدوار النخبةِ في واقعنا المعاصر، إلا أننا نلاحظ أن النخب العربية ما زالت تخفق في الدعوة المجرّدة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، ونجد أيضًا أن الأزمات العربية تتفاقم عقداً تلو آخر جارفة معها آمال الشعوب في التغيير. العلاقة بين الأيديولوجيا والنخبة: إن الأيديولوجيا أداةٌ لغويةٌ ومعنويّة تنطوي على تحفيزات مختلفة موجَّهةٍ للمؤمنين بها، ولذا نرى أن الأشخاص المؤدلَجين ينجحون دائمًا في إقلاق الآخرين، رغم فشل أيديولوجياتهم في البقاء أو الانتشار، فتدخل الأدلجة بذلك في التمحور حول الماضي وجعله أداة لفهم الواقع وطريقًا للمستقب لقد تمركزت نخبنا الثقافية ردحًا طويلاً من الزمن حول الماركسية بشكلها السوفياتي المعادي لكل أشكال الدين، وثمّة فريق نخبويٌّ آخر موازٍ لها تمركز حول الارتباط بالغرب باعتباره الجنّة الحضاريّة التي يملك أصحابها التفوّق والفكرَ التنويريّ، بالتوازي مع رفض ونقد جميع ما جاءنا عبر تاريخنا الديني والقومي والفكري. كما نلاحظ أن فئة واسعة من اليسار ارتحلت نحو الوجه الليبرالي للأيديولوجيات الجديدة، إلا أن سمة الإقصاء والنظرة الفوقية هي سمة مشتركة لدى المؤدلَجين على العموم.