15 سبتمبر 2025
تسجيلبدعوة من رئاسة مجلس الوزراء بالجمهورية التركية، شاركت "الشرق" ضمن 10 شخصيات إعلامية ومؤسسات بحثية، في زيارة استغرقت أسبوعاً إلى كل من أنقرا واسطنبول، التقت خلالها العديد من المسؤولين وصنَّاع القرار والجهاز التنفيذي الحكومي، إضافة إلى مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام.هدفت الزيارة إلى اجراء نقاشات وحوارات حيال العلاقات التركية العربية، خاصة بعد مرور 10 سنوات على حكم حزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى الحكم في 2002، واستطاع أن يدير دفة الحكم بصورة أذهلت الداخل والخارج، وقدمت نموذجاً جديداً، وباتت تجربة حكومة " العدالة والتنمية " مثالاً في استنهاض قوى المجتمع لتحقيق التنمية الشاملة، وهو ما حققه الحزب في مسيرته خلال السنوات الـ " 10 " الماضية."الشرق" تستعرض في سلسلة تقارير الزيارة التي قامت بها إلى تركيا، والتقت خلالها بالنخب السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والاعلامية.."وان منت".. او "دقيقة واحدة".. كلمتان استوقف بهما رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في منتدى دافوس في 29 يناير 2009، وانتزع بهما وقتا في الجلسة الخاصة لبحث الاوضاع في قطاع غزة، للرد على الادعاءات التي اثارها الرئيس الاسرائيلي بيريز..، كانت الـ "وان منت" هي اللحظة الفارقة في العلاقات العربية التركية، فقد كانت "غضبة" اردوغان، انتصارا لغزة، ضد العدوان الاسرائيلي الذي تعرضت له في نهاية 2008 وبداية 2009، شكلت حضورا كبيرا له في المشهد العربي الشعبي قبل السياسي.لم يتردد اردوغان في توجيه نقد لاذع لبيريز الذي كان جالسا بجواره على المنصة ومعهما امين عام الامم المتحدة بان كي مون، وامين عام الجامعة العربية آنذاك عمرو موسى، الذي لم يحرك ساكنا، قال اردوغان لبيريز بلغة حادة وصارمة "لقد قال لي اثنان من رؤساء الوزراء السابقين لبلدك "عندما ندخل فلسطين بالدبابة نشعر بسعادة وبأحسن حال"، ووجه كلامه للحضور بنبرة غاضبة "اوجه كلامي للذين هللوا وهتفوا قبل قليل -يقصد لكلمة بيريز عندما القاها قبله- التصفيق لقتل الاطفال ولقتل المدنيين في نظري يمثل في حد ذاته جريمة اخرى ضد الانسانية، يجب علينا الا نخفي الحقيقة".كانت كلمات اردوغان "رصاصة" وجهت الى اسرائيل، وفي نفس الوقت مثل مرحلة جديدة في العلاقات التركية العربية، كان بطلها رئيس الوزراء اردوغان، الذي حسب قول احد المفكرين الاتراك ان العالم العربي يعرف تركيا من خلال اردوغان.هذا الموقف مثّل اوج العلاقات بين الطرفين، وان كان العرب والاتراك بدآ في التقارب بعد قطيعة دامت اكثر من 80 عاما، مع بداية الحرب على العراق، عندما رفضت تركيا ان تكون طرفا في الحرب ان تسمح للولايات المتحدة الامريكية باستخدام اراضيها لاحتلال العراق، ثم تطورت العلاقات لاحقا مع العدوان الاسرائيلي على لبنان 2006، فكان لانقرة موقف رافض للحرب ومؤيد للبنان، وفي مسار مواز كان الاهتمام بالقضية الفلسطينية يتزايد من قبل حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، فكان ان تم استقبال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في عام 2008، وكان هو الشخصية الوحيدة التي لا تمثل دولة يتم استقبالها رسميا، مما اعطى مؤشرا آخر على التحوّل الذي تشهده السياسة التركية، والتغيير في التعامل مع القضايا العربية، واعادة الاهتمام بالعالم العربي، ثم كان الموقف في منتدى دافوس 2009، وما تلا ذلك من اعتداء اسرائيلي على سفينة مرمرة التركية في 31 مايو 2010، واستشهاد 9 مواطنين اتراك، والتي كانت متجهة الى كسر الحصار على غزة، فكان ان قامت البحرية الاسرائيلية بمهاجمتها في المياه الدولية، فلم تتردد تركيا في اتخاذ مواقف اكثر حزما عندما سحبت سفيرها من تل ابيب، وطلبت من السفير الاسرائيلي مغادرة انقرة، وتقديم اعتذار مع تعويض اسر الضحايا وانهاء الحصار المفروض على غزة.وامام اصرار تركيا على مطالبها، وعدم التزحزح عن مواقفها، اضطرت اسرائيل مؤخراً الى تقديم اعتذار مكتوب، وهو ما يحدث لاول مرة ان تقوم اسرائيل بتقديم اعتذار على عدوان اقدمت عليه، ووافقت على تقديم تعويضات لاسر الضحايا، وتصر القيادة التركية على قضية انهاء الحصار عن غزة، التي يعتزم اردوغان زيارة القطاع بنهاية الشهر الحالي.طبعاً بعد معركة دافوس التي خاضها اردوغان وكسبها بنجاح فائق ليس فقط في العالم العربي، انما ايضا في الداخل التركي، حيث استقبل استقبال الابطال عندما عائد من منتدى دافوس، حيث كان الآلاف في استقباله في المطار وفي الشوارع، فتحول الى زعيم جديد، وظاهرة غير مألوفة في المشهد التركي.*خطوات عملية في التقاربلم تكتف تركيا بـ"مغازلة" العالم العربي اعلامياً، انما اتخذت خطوات عملية في التقارب بينها وبين العالم العربي، الذي لم يبد نفس الاندفاع نحو التقارب معها، خاصة قبل الربيع العربي، عندما كانت بعض الانظمة تتخوف من الدور التركي، فلم تبادل الاهتمام التركي باهتمام مماثل، فيما ارتفعت وتيرة الاهتمام العربي بعد ثورات الربيع العربي.من بين الخطوات العملية التي قامت بها تركيا، قيام اردوغان خلال السنوات العشر الماضية بزيارات الى 88 دولة، منها 51 دولة في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا، وهو ما يمثل نحو 58 %، وتعد هذه اكثر زيارات قام بها رئيس حكومة تركية منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923.جمال الدين هاشمي أحد مسؤولي الإعلام برئاسة مجلس الوزراء يقول "علاقاتنا ليست جديدة انما استعادة الذاكرة "، ويضيف "في السابق كان تعلم اللغة العربية جريمة، من يتقدم لشغل وظيفة ينفي تماماً معرفته باللغة العربية، اعلامنا لا يرسل أي مندوب للعالم العربي.. اخبارنا نستقيها من الغرب.. في حرب العراق الاولى كان مصدر اخبارنا واشنطن.. قبل 15 سنة لم نكن نستطيع عقد لقاءات مع العرب كما هو الحال اليوم.. وان كانت هناك استثناءات في فترة رئاسة اربكان وتورغوت اوزال.. "، واصفاً المرحلة الحالية في العلاقات مع العرب بأنها "عودة الدولة الى طبيعتها.. الى الدور الذي يفترض ان نكون عليه.. ".ويضيف "لقد صمتنا نحن والعرب 100 عام، وعندما بدأنا الحديث ساد الحماس الكبير هذه العودة، حققنا بعض التوقعات التي كنا نتأملها، وحدثت بعض خيبات الامل، لكننا الاهم اننا بدأنا نؤسس لغة مشتركة فيما بيننا ".*كوادر مطلوبةوفي نفس السياق يشير المدير العام للمديرية العامة للصحافة والنشر والاعلام مراد قرا قايا إلى ان هناك رغبة شديدة في استقطاب الكوادر التي تجيد اللغة العربية في رئاسة مجلس الوزراء وفي الوزارات والمؤسسات الاخرى، وقال "يوميا نعقد اختبارات للمتقدمين بطلب وظائف لمن لديهم اتقان للغة العربية، فنحن بحاجة ماسة الى مثل هذه الكوادر المطلوبة حالياً في اكثر من مكان، في ظل تنامي العلاقات الاخوية بين تركيا والعالم العربي".*وكالة الأناضولوترجمة فعلية لحرص القيادة التركية على ايجاد لغة للتواصل مع العالم العربي، اقدمت على افتتاح قسم للبث العربي في وكالة انباء الاناضول، التي تعتبر اقدم وكالة انباء، بل إنها تأسست قبل قيام الجمهورية التركية، حيث أشهرت في عام 1920، أي قبل قيام الجمهورية بثلاث سنوات.يقول المدير العام ورئيس التحرير بوكالة الاناضول للانباء كمال اوزتورك "نقوم من اكثر من عام ببث الاخبار العربية من مراسلينا في العواصم العربية مباشرة، دون الحاجة الى وسيط اجنبي حسب تعبيره لكي ينقل اخبارنا الى العرب، وينقل اخبار العرب الينا".ويضيف "نبث في المتوسط 200 خبر عربي وهو اعلى من وكالة رويترز، ونهدف بنهاية العام الى الوصول الى 250 خبراً، بعدما نقوم ببث الاخبار الاقتصادية والرياضية، كما نقوم بارسال نحو 1200 صورة فوتوغرافية، وما بين 150 و 200 فيديو".واشار الى ان لديهم مكاتب كبرى في عدد من العواصم العربية، كما هو الحال في القاهرة، التي تتميز الوكالة باخبار نوعية، اضافة الى مراسلين في العواصم العربية ينقلون الاخبار والتطورات لحظة بلحظة، موضحاً ان وكالة الاناضول تبث حالياً بخمس لغات، وتعتزم العام المقبل التوسع لتصل الى البث بـ 8 لغات.واستشهد اوزتورك بالتعاون مع جريدة " الشرق " التي تقوم بنشر تقارير مستمرة، وصفحات منوعة عن تركيا، معتبرا ان مثل هذه الخطوة تمثل عملا لم يكن بالامكان القيام به في مراحل سابقة قبل عقد من الزمن.*فضائية عربيةوفي المسعى الاعلامي نفسه، اقدمت الحكومة التركية على افتتاح فضائية تبث باللغة العربية، وهي بادرة نوعية، تهدف لتوطيد العلاقة مع العالم العربي، وتسليط الاضواء على العلاقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والفكرية.. المشتركة بين الجانبين، حيث تضم القناة كوادر عربية مؤهلة لاعداد وتقديم البرامج النوعية التي تخاطب الجمهور في العالم العربي، وفي نفس الوقت تستضيف في حوارات ولقاءات مختلفة مفكرين واعلاميين وسياسيين عربا للاطلالة على المشاهد التركيويعول الاتراك كثيرا على افتتاح الجزيرة التركية، التي سبق ان تم الاعلان عنها، والتي يعتبرون ان اطلاقها سيكون فتحا اعلاميا كبيرا بالنسبة للطرفين التركي والعربي، وستعزز من العلاقات بين الجانبين، خاصة في ظل المصداقية التي تتميز بها الجزيرة، والمهنية العالية التي تنتهجها كسياسة تحريرية في تعاملها مع الاحداث.وفي اكثر من مرة كان التساؤل عن موعد افتتاح الجزيرة التركية، التي تعقدون عليها آمالا عريضة.*ملتقيات متنوعةوليس بعيدا عن مثل هذه الخطوات، فان تركيا بادرت في اطار انفتاحها على العالم العربي بتأسيس العديد من الملتقيات والمنتديات، سواء كان ذلك في مجال الاعلام او العلاقات الاجتماعية، فهناك ملتقى اعلام التركي العربي، الذي عقد في اسطنبول، وتسعى تركيا الى تنقله بين العواصم العربية حتى تتوسع دائرة التعاون الاعلامي بين العالم العربي وتركيا.كما ان هناك مؤتمرات وملتقيات سياسية واجتماعية وفكرية.. تنظمها مؤسسات رسمية او مراكز بحثية، اضافة الى الدعوات والاستضافات للعديد من الشخصيات العربية في انقرة واسطنبول، بهدف تعزيز التواصل مع العالم العربي بقطاعات المختلفة.*وكالة التعاون والتنسيقوواصلت تركيا اهتمامها بالتواصل مع العالم العربي عبر مؤسسة خدمية تتولى تنفيذ واقامة مشاريع انسانية في القطاعات المختلفة، وهي وكالة التعاون والتنسيق التركية.يقول سردار جم رئيس الوكالة " لدينا 35 مكتبا في 31 دولة، ومشاريع في 110 دول، وفي عام 2012 وحده نفذنا 1630 مشروعا "، هدفنا ترسيخ التعاون، مشيرا الى ان العامين الاخيرين تم تطوير مشاريع تجاه دول الربيع العربي، اضافة الى غزة التي تم تنفيذ مشاريع مختلفة، آخرها مستشفى بكلفة 60 مليون دولار، وتجهيز مستشفى آخر في طوباس بالضفة الغربية، وتقديم الدعم لمستشفى ثالث بالخليل.ونوه في هذا الصدد بالتعاون مع دولة قطر في دارفور، مشيرا الى ان وكالته تعتز بهذا التعاون الذي يهدف الى تطوير دارفور، وتوفير خدمات انسانية لمواطنيها، وانهم مستعدون لمزيد من التعاون والتنسيق بين الجانبين.كما اشار الى مشاريع اخرى تنفذ في الصومال، منوها في هذا الصدد بزيارة قام بها اردوغان الى الصومال في عام 2011، وتم اطلاق حملة شعبية من اجل الصومال.واشار الى ان مساعداتهم تعتمد على الاحداث التي تتعرض لها المناطق، ففي 2006 عندما تعرض لبنان الى العدوان الاسرائيلي، اتجهنا صوب لبنان وقدمنا له المساعدات، وعندما جاء الربيع العربي كانت لنا مبادرات نحو توفير مساعدات انسانية وتدريب للدول التي شهدت الثورات، بهدف تطوير بنى المجتمع.*بناء الجسوريؤكد المسؤولون الاتراك انهم يسعون الى بناء الجسور مع العالم العربي، بعد ان تم هدم الجدران القائمة بين الطرفين طوال الـ " 80 " عاما الماضية، وانهم ماضون في سبيل تعزيز هذه الجسور، ويعتمدون في سبيل ذلك اضافة الى التواصل الرسمي الدبلوماسية الشعبية، للتواصل مع الشعوب العربية والشعب التركي، ودعم مبادرات المجتمع المدني، الذي يؤكدون اهمية تقويته حتى يقوم بالادوار التي تعزز من اعادة الروح للعلاقات التركية العربية، التي يرون انها تعيش مرحلة الانفتاح على الآخر، وتلمس الطريق للمضي قدما يدا بيد.