27 أكتوبر 2025
تسجيلقيل كلام كثير عن الحوار بين الحضارات وحوار الديانات واحترام الآخرين ومعتقداتهم ودياناتهم. وقيل الكثير كذلك عن أن العولمة ستؤدي إلى تقارب الشعوب ودمقرطة الأنظمة، والتفاهم والتسامح والتعاون. كما قيل كذلك أن تكنولوجيا الاتصال والإعلام ستجعل من العالم قرية صغيرة تتعرف من خلالها شعوب العالم على بعضها البعض، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التفاهم والتحاور وإلى قلة النزاعات والحروب وبؤر التوتر في العالم. كما قيل كذلك كلام كثير عن دور الإعلام في تقارب الشعوب والثقافات والحضارات والديانات، وأن الإعلام يلعب دورا إستراتيجيا في نشر ثقافة التسامح والسلم واحترام الآخر ومحاربة العنصرية والاستغلال والاستعمار والإرهاب واحتقار الآخر والاستهزاء به. قبل سنوات أصدرت مجلة " شارلي إيبدو" الفرنسية عددا خاصا عنونته "شريعة إيبدو" تسخر فيه من الإسلام والمسلمين وأوكلت رئاسة تحرير العدد حسب مسؤوليها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجاءت هذه المبادرة من قبل المجلة الفرنسية بعد فوز حزب النهضة الإسلامي في تونس بنسبة كبيرة من مقاعد المجلس التأسيسي وبعد إعلان المجلس الانتقالي في ليبيا تطبيقه الشريعة الإسلامية في الدستور الليبي الجديد. ما حدث عن الصحيفة الفرنسية ومن قبلها الصحيفة الدانمركية وغيرها كثير فيما يتعلق بالتجاوزات ضد الإسلام والمسلمين والعرب يتنافى جملة وتفصيلا مع العمل الإعلامي الحرفي، المسؤول والملتزم. يتنافى مع رسالة الإعلام الشريفة والنبيلة، يتنافى وقدسية الرموز الدينية مهما كانت وأينما كانت. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو لصالح من؟ مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة، وما هي الأهداف من ورائها وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها؟ وماذا ستضيفه لتأسيس وبناء قنوات التواصل والتفاهم بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات؟ إلى أي مدى ستخدم هذه الافتراءات والتهكمات وهذا الاستخفاف وهذه الصور حوار الحضارات والثقافات والديانات والتقارب بين الشعوب؟ مثل هذه التصرفات بدلا من نشر ثقافة التفاهم والتسامح التقريب تعمق الفوارق والتضليل والتشويه وسوء التفاهم وانعدام الحوار وانتشار الصور النمطية التي تفرز ثقافة الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية والجهل. والمؤسف لحادثة "شارلي إيبدو" والرسوم الكاريكاتورية من قبلها وغيرها كثير من مظاهر الحقد والكراهية هو أن السلطات الدانمركية والفرنسية والمجتمع الرسمي والمدني في الدانمرك أو في فرنسا لم تحرك ساكنا أمام ما حدث، وكأن شيئا لم يحدث. وهذا يعني أن الأمر عادي بالنسبة لهم وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيء. والدليل على ذلك أن استطلاعا للرأي العام كشف أن أغلبية الدانمركيين لا يحبذون الاعتذار للمسلمين لما حدث كمخرج وكحل للأزمة. ما نجم عن صحف فرنسا والدانمرك والنرويج ومن دول أخرى يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات الممارسة الإعلامية في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته ودياناته. كما تخالف تلك التصرفات مقررات منظمة الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات. بكل بساطة هذه التصرفات تنم عن جهل وحقد وكراهية وعن عدم المقدرة على التعايش مع الآخر، بل التفكير في تدميره والقضاء عليه والتخلص منه، كما أنها تعبر تبرير الفشل باستخدام الآخر كسبب له. الأخطر في القضية كلها هو نتائج استطلاعات الرأي العام التي جاءت لتؤكد ماذا يدور في أذهان الناس العاديين. النتائج أكدت عدم الاعتراف بالخطأ وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين وهذا أمر خطير لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب. وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية. فبدلا من تشجيع الحوار والنقاش والتفاهم والتعرف على خصوصية الآخر وثقافته نلاحظ، أن الآلة الإعلامية في المجتمع المعاصر أصبحت تهدم أكثر مما تبني وأصبحت تساهم في إثارة الفتن والحروب والنزاعات أكثر من مساهمتها في نشر السلم والأمن والاستقرار والتقارب والمحبة والتلاحم والتفاهم بين الشعوب، بل أصبحت وسائل الإعلام آلات لنشر ثقافة الحقد والكراهية والخوف. الحرية التي تطالب بها معظم المؤسسات الإعلامية في العالم والتي يتغنى بها الكثير أصبحت فارغة من محتواها الحقيقي حيث أنها آلت إلى أشخاص لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية ولا يعرفون الالتزام باحترام الآخر وخصوصيته.