15 سبتمبر 2025

تسجيل

بين مارتن لوثر وكمال أتاتورك

14 يناير 2015

منذ الثامن والعشرين من ديسمبر الفائت، تاريخ إلقاء "الرئيس المصري" لخطاب الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والذي دعا فيه لثورة دينية لتنقية نصوص التراث الإسلامي من المواد المحرضة على الكراهية، والإعلام العالمي يمارس طقوسا احتفائية بهذا الخطاب. وقد تصاعد هذا الاحتفاء بعد أحداث فرنسا الأخيرة، حيث بدأ الكثيرون يشيرون إلى المعاني التي تضمنها الخطاب على أنها مفتاح التخلص من الأصولية وتطهير العالم من الإرهاب، لاسيما وهي تأتي على لسان "رئيس" أكبر دولة إسلامية في الشرق الأوسط.وكان "الرئيس المصري" قد تحدث أمام علماء وشيوخ مؤسستي الأزهر والأوقاف، عن ضرورة التخلص من أفكار ونصوص، تم تقديسها على مدى قرون، وباتت مصدر قلق للعالم أجمع، وقال في كلمته: إنه "ليس معقولا أن يكون الفكر الذي نقدسه على مدار مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها"، داعيا إلى تنقية التراث من النصوص التي تدعو إلى كراهية الآخر، أو تضع المسلمين في مواجهة الجميع. كما دعا علماء المسلمين أن يتخلوا عن عقليتهم القديمة، وينظروا إلى الموضوع بتجرد لكي يروا الأزمة على حقيقتها. وقد احتفت العديد من صحف العالم الغربي بهذا التصريح، واعتبرت أنه يمثل بداية لحملة داخل العالم الإسلامي لعزل التطرف والمتطرفين، وتجفيف المنابع التي يستقون منها إرهابهم. ورغم أن معظم الصحف العالمية التي تناولت هذا التصريح أشارت في صدر تعريفها بالرئيس المصري إلى الطريقة التي وصل من خلالها إلى الحكم والخلفية التي ينتمي إليها في إطار عبارات سلبية، إلا أنها كانت تنتهي إلى الإشادة به، معتبرة أن من شأن دعوته أن تحمل أملاً بالقضاء على الإرهاب الذي تؤمن العديد من الدوائر الغربية بأنه ينبع من داخل النصوص الإسلامية نفسها، وليس فقط من سلوك بعض المنتمين إليها، كما يتم ترديد ذلك في المناسبات الدبلوماسية.وإذا كانت الكلمات لا تعني الكثير بالنسبة للبعض، فإن قيام "الرئيس المصري" بنفسه في أعقاب كلماته هذه بحضور قداس عيد الميلاد في الكاتدرائية القبطية كأول رئيس مصري يشهد احتفالات غير المسلمين بأعيادهم، قد مثَّلَ، من وجهة نظر المراقبين، ترجمة للطريقة التي يريد أن يفعل بها أفكاره حول مواجهة التطرف. كما أن المواجهات العنيفة التي اصطدم من خلالها مع قوى الإسلام السياسي داخليا أعطت انطباعا أنه لا يردد مجرد تعبيرات خطابية حول خطر الإرهاب وضرورة التصدي له، وإنما يمارس في سبيل ذلك أفعالا ملموسة!.من ناحية أخرى اعتبرت هذه الدوائر أن الخلفية العسكرية للرئيس المصري، وإن كانت تحول بينه وبين لعب دور المصلح الديني أو مارتن لوثر الإسلام، فإنها تؤهله رغم ذلك للعب دور مناظر لما قام به مصطفى أتاتورك في تركيا، حيث قام الأخير بإدخال تركيا إلى عالم الحداثة الغربية من خلال عزل القيم الدينية عن المجال العام، واستبعاد كافة مظاهر الحكم الديني.واعتبر المراقبون أن "الرئيس المصري" قد فعل من خلال هذه التصريحات ما لم يستطع الغرب منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 أن يفعله، بشأن المجاهرة بحاجة النصوص الإسلامية إلى مراجعة!، كما ذهبت بعض الدوائر خطوة أبعد من مجرد الإشادة، تمثلت في الدعوة صراحة إلى احتضان تجربته الإصلاحية.وقد صرح أحد مساعدي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، دوجلاس فيث، بإمكانية تبني الولايات المتحدة نفسها لمشروعه، عبر القيام بحملة علاقات عامة عبر العالم الإسلامي لإقناع المسلمين بأن استهداف الأصولية لن يمس معتقداتهم في شيء، وأن محاربة "الإرهاب الإسلامي" ليست نوعا من الحرب العقائدية ضد الإسلام نفسه!.اللافت أن حملة الترحيب الأمريكية بتصريحات "الرئيس" كانت أوضح ضمن المعسكر المحافظ، والذي كان الداعم الرئيسي للرئيس الأمريكي بوش في حربه في أفغانستان والعراق. حيث يرى هذا المعسكر أن "النظام المصري" بهذه التصريحات قد وضع نفسه في المكان الصحيح، فرغم الحملة التي يشنها المحافظون ضد الأنظمة الاستبدادية عبر العالم، فإن ثمة استثناء محجوزا للأنظمة التي تعلن مشاركة الولايات المتحدة حربها ضد "الإرهاب"، وتؤيد في الوقت ذاته التعاون مع إسرائيل لنفس الغرض. وقد تحقق من وجهة نظرهم في النظام المصري الحالي الشرطان معاً. أما داخليا فقد تجاوب رجال الإعلام المصري بنشاط مع تصريحات "الرئيس" وبدأوا لأول مرة تقريبا في توجيه انتقادات مباشرة للمؤسسة الدينية الأكبر والأقدم في مصر، وممثلة الإسلام السني في العالم الإسلامي بأكمله، الأزهر الشريف، متشجعين على ما يبدو بالانتقادات الصريحة التي حملها خطاب "الرئيس" لممثلي الإسلام الرسمي، والذي يظهر أن الدولة لم تعد مقتنعة بجدوى الاعتماد عليهم أو الاستثمار في مؤسستهم.أغرب ما في الموضوع أن أصواتا غربية بدأت تتساءل عن إمكانية منح الرئيس المصري جائزة نوبل للسلام، معتبرة أن دعوته الشجاعة وتوقيت إطلاقها، مؤهلات كافية لمنحه هذه الجائزة. كما تشهد القاهرة نشاطا دبلوماسيا غير معتاد في استقبال الوفود التي تأتي إلى مصر لتعلن مباركتها للحملة الإصلاحية المزمع انطلاقها منها!.وأيا ما كان التوصيف الدقيق لما يجري في مصر، وسواء أكانت الحملة التي تشهدها لوثرية أو أتاتوركية، فإن المؤكد أن استدعاء التراث الإسلامي ووصفه بهذه الطريقة الصادمة سوف يفتح الباب أمام العديد من التطورات التي لن تصب في المجمل في صالح استقرار البلاد أو حمايتها، مما يوصف بالإرهاب.