19 سبتمبر 2025
تسجيلفي سابقة في التاريخ التركي الحديث اعتقل رئيس أركان الجيش السابق الجنرال ايلكير باشبوغ بتهمة تنظيم عصابة إرهابية تهدف إلى الإطاحة بالحكومة بطرق غير شرعية عندما كان رئيسا للأركان. ليس باشبوغ رئيسا قديما للأركان بل كان إلى ما قبل سنتين فقط في هذا الموقع. اتهام باشبوغ بهذه لتهمة ليست جديدة. ظهرت التهمة حينها عندما كان في موقعه لم يتحرك أحد ولم تكن الحكومة في موقع ضعيف لكن يبدو أنها كانت تريد أن تمكّن نفسها أكثر وتنتظر التعديلات الدستورية التي أقرتها في 12 سبتمبر لتتيح محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية ولو كانوا في الخدمة الفعلية. باشبوغ ردّ بعبارة معبّرة وهو أنه لو كان يريد الإطاحة بالحكومة فلم يكن ليشكل عصابة مسلحة وتنظيما إرهابيا بل كان باستطاعته أن يتبع أساليب أخرى وتحت إمرته 700 ألف جندي وواحد من أقوى الجيوش في العالم. كان يعني أن باستطاعته القيام بانقلاب عسكري. لم يفعل حينها باشبوغ ولم ينجح غيره من رؤساء الأركان السابقين الذين كانوا في عهد سلطة حزب العدالة والتنمية القيام بذلك. ظهرت أقاويل عن وجود أكثر من خطة ومحاولة فعلية للإطاحة بسلطة رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان منذ العام 2003 وحتى اليوم, وكانت كلها تكتشف, بعضها قد يكون صحيحا وبعضها قد يكون مفبركا. لكن في النهاية كانت صورة الجيش تتراجع وهيبته تتدنى في نظر الرأي العام ما يقوّي سلطة اردوغان وحزب العدالة والتنمية. واليوم مع اعتقال باشبوغ يكون الكيل قد طفح في العلاقة مع المؤسسة العسكرية. لكن مع ذلك لا يبدو أن هناك انزعاجا في القيادة العسكرية الحالية من ذلك. ذلك أن الطبقة العسكرية التي تحتل المواقع القيادية في الجيش من رئيس الأركان إلى قادة القوات المسلحة، وباستثناء عدد محدود منهم تنتمي إلى الجيل الجديد من القادة الذين يطلبون رضى السلطة السياسية التي تعينهم أو هي التي يجب أن توافق على تعيينهم في النهاية. ورئيس اركان الجيش الحالي نجدت اوزيل الوحيد الذي"خان" رفاقه في نهاية شهر يوليو الماضي ولم يقدم استقالته، وكان قائدا عاما للدرك، مع رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة احتجاجا على اعتقال جنرالات ومنع ترقية جنرالات آخرين. فكانت مكافأته تعيينه رئيسا للأركان, وبالتالي لا يتوقع أن تصدر ردود فعل سلبية من قادة الجيش على اعتقال رئيس أركان سابق لأنهم جميعا يطلبون رضى أردوغان. تحدث باشبوغ بصورة غير مباشرة عن أنه كان قادرا على الإطاحة بالحكومة عبر انقلاب عسكري ولم يفعل. والسؤال هنا لماذا لم يفعل ذلك؟ هنا بيت القصيد في العلاقة بين السلطة السياسية والجيش. لقد نجح أردوغان في تطويع الجيش ليس لأنه يريد استكمال الإصلاح ولا لأنه يحب إضعاف هيمنة العسكر لحساب المدنيين ولا لأنه يريد أن تأخذ العملية الديمقراطية مجراها. ربما يتوجب أن نعود إلى الأسابيع الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية في نهاية العام 2002 وبداية العام 2003 حيث كانت أمريكا تتحضر لغزو العراق, كانت تريد أن تغزو العراق من جبهتين كويتية وتركية لضمان نجاح الحرب والتقليل من الخسائر. لم يوافق البرلمان التركي على مشاركة تركيا رغم مذكرة الحكومة التي كانت تريد ذلك.في مطلع مايو كان نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفويتز يتهم الجيش التركي بأنه لم يرسل "إشارة قوية" إلى البرلمان للتصويت على قرار المشاركة في الحرب. وبعدها بفترة اتهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أنقرة بأنها تتحمل مسؤولية ارتفاع عدد القتلى الأمريكيين في العراق لأنها لم تشارك في الغزو. الغضب الأمريكي على الجيش التركي كان من أهم أسباب رفع التغطية الأمريكية عن أي انقلاب للجيش على حكومات رجب طيب اردوغان. وكل الانقلابات العسكرية في تاريخ تركيا الحديثة كانت بإيعاز أمريكي. لكن احتضان واشنطن لسلطة تمثل "الإسلام المعتدل" كما وصفها حينها الرئيس جورج دبليو بوش وتقديمها نموذجا للعرب والمسلمين كان سببا آخر لمنع سقوط هذا النموذج. أما السبب الثالث لإضعاف العسكر التركي فهو أن الولايات المتحدة في سياق الرغبة في تدمير القدرات العسكرية للدول الإسلامية (العراق ، ليبيا نموذجان على ذلك) تريد أن تضعف الثقة بالجيش التركي ورفع الحصانات المعنوية عنه لدرجة رؤية جنرال كان إلى ما قبل سنتين فقط رئيسا للأركان داخل السجن فيسهل تحطيم الروح المعنوية لواحد من أقوى الجيوش الإسلامية فيسهل لاحقا إخضاع تركيا وتفتيتها عندما يحين دورها في إطار"الشرق الأوسط الجديد". ولم تحفظ الحكومة التركية حتى في الحدّ الأدنى كرامة الجيش التركي وليس رئيس الأركان السابق كشخص عبر رفض محاكمته وهو قيد الاعتقال الجبري في منزله أو وهو حر. اعتقال باشبوغ هو اعتقال هيبة جيش قبل أن يكون تغليبا للنزعة المدنية على العسكرية.