31 أكتوبر 2025
تسجيلفي أي نقاشات حول مسألة الخلاف في الرأي، أجدني أستحضر مثالاً يخصني شخصياً حين كتبت مقالاً قبل سنوات خمس فائتات، تحدثت فيه عن مسلسل تلفزيوني رائع عن سيرة أبرز شخصيات الإسلام من بعد الرسول الكريم وصاحبه أبي بكر، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأتذكر كيف دار النقاش حول المسلسل ما بين تأييد وحياد وفئة أخرى معارضة وبشدة وعنف أحياناً لفكرة تجسيد الصحابة ومن ضمنهم عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه. ليس في النقاش والاختلاف في الآراء شيء، بل إنه الطبيعي أو هو المطلوب أن يكون في كثير من أمور حياتنا، بما فيها الدينية من تلك التي لم يأت نص قطعي صريح بشأنها من القرآن والسنة. والمثال المطروح هو أحد تلك الأمور التي اختلف العلماء حولها منذ فترة طويلة، ما بين الحل والتحريم والكراهة.. إن مما أجمع عليه علماء الأمة منذ عهد الصحابة الكرام إلى يومنا هذا، أنه لا يجوز إكراه الغير على رأي مختلف عليه، فما يراه عالم أو فقيه في مكان ما قد يخالفه آخر، لكن لا تجد أي أحد منهما يعتبر رأيه هو الصواب ورأي مخالفه خطأ، إنما لكل منهما اجتهاده وأجره، فمن شاء أحد من العامة أن يأخذ برأي أحدهما، فله ذلك دون أن يعيب على الرأي الآخر وصاحبه ومن يتبعه. هكذا هو الأصل، وهذا النوع من الثقافة هو المطلوب نشره. أن تجمع الناس على رأي واحد في مسائل الدين والدنيا هو أمر صعب المنال، باعتبار اختلاف البشر أنفسهم في تكويناتهم وثقافاتهم وبيئاتهم، ولكن بالتسديد والمقاربة، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وصولاً إلى الجدال بالتي هي أحسن. وهذا يستدعي بالطبع ضرورة التزود بمعرفة ألف باء الخلاف والنقاش، ومن ثم الارتقاء بثقافة الحوار وتقبل الآخر، وعدم الاعتداد بالرأي والإصرار على قهر المخالف.. وقصة عدم إقامة صلاة العصر إلا في بني قريظة من بعد غزوة الأحزاب، وانقسام الصحابة في فهم الأمر النبوي، مثال واضح يصلح للاقتداء والتوجيه إلى آخر الزمان، حيث صلى البعض من الصحابة حين دخل العصر وهم بعد لم يصلوا آطام ومساكن بني قريظة، فيما البعض الآخر فهم الأمر النبوي أنه لا إقامة للصلاة إلا هناك، وإن فات الوقت وهذا ما حدث لهم. وحين سمع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بخبر الفريقين من أصحابه، لم يعنّف أي فريق، لا الذي لم يصل في بني قريظة كما أمر، ولا الفريق الذي أخّر الصلاة حتى فات موعدها. حين أراد الخليفة العباسي من الإمام مالك بن أنس أن يجمع الناس على مذهب واحد، قال له الإمام:» إن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وافترقوا في البلدان وكلٌ عند نفسه مصيب» ورفض أن يُكره الناس على ما اجتهد فيه. وبالمثل يرى الإمام أحمد بن حنبل أنه لا ينبغي للفقيه أن يجبر ويحمّل الناس على مذهبه، والتشدد في هذا. وهذا هو الفقه الحقيقي والإلمام بواقع الناس. فهمه علماؤنا الأوائل فهماً دقيقاً، حتى جاء في زمننا هذا من يدعي اتباع أولئك العلماء، ثم تجد أحدهم وقد شدد على رأي له يراه صواباً، ويدعو الناس إليه ويقيم الدنيا ولا يقعدها على رأي لغيره يخالفه! ما الذي أدخل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله السجن مرات عدة، إلا هكذا نوع من المفتين وعلماء السوء المقربين من السلاطين عادة، الذين في فترة معينة يبدأ الحسد يسيطر على نفوسهم، فلا يجدون طريقة لقمع مخالفيهم من علماء آخرين إلا بالوشاية وتصيد وتضخيم الأخطاء، وتصويرها بأبشع صورة عند صاحب القرار أو السلطان.. فهكذا كانت معاناة ابن تيمية ومن بعده ابن قيم الجوزية وغيرهما كثير كثير إلى يومنا هذا، وما أكثر المعتقلين من العلماء في سجون مصر والسعودية والإمارات وغيرها من بلاد الإسلام، ولا أستبعد مطلقاً أن سبب اعتقالهم ليس من الساسة بقدر من حولهم من علماء سلطة، زينوا لأولئك الساسة أمر تغييب تلك الثلة من العلماء، صفوة مجتمعاتهم. خلاصة الأمر، إن اجبار غيرك على رأيك، هو أمر غاية في التطرف والبعد عن الرقي في التعامل أو الذوق بلغة العصر.. إن اجتهدت في رأي ووصلت الى قناعة أنه صواب، فلك أن تقول به دون أن تقلل من شأن آراء أخرى تخالفك، فمثلما اجتهدت أنت، فكذلك غيرك كثيرون اجتهدوا، فلك ولهم أجر الاجتهاد. أما أن تدخل في جدال عقيم ومراء لا جدوى منه، لأجل اثبات صوابية رأيك وخطأ الآخرين، فهذا استهلاك مفرط للوقت والجهد لا طائل من ورائه، ولنتذكر دوماً القول الجميل للشافعي:» رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» أو كما قال الإمام محمد رشيد رضا وهو يدعو للتعاون ونبذ الخلاف وأهمية جمع الكلمة والبعد عن تفرقها: «نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه». وما أكثر مساحات الاتفاق بيننا التي يمكن التعاون والعمل معاً فيها، وما أقل هوامش الاختلاف بيننا، وأقل من أن تأخذ الجهود والأوقات والأموال.. فأين الناس من كل هذه المفاهيم؟