18 سبتمبر 2025

تسجيل

الحداثة في تركيا

13 ديسمبر 2014

ارتبط مسار التحديث في تركيا بالإصلاحات التي كان بدأ السلاطين العثمانيون بها في نهاية القرن الثامن عشر، وعرفت ذروة لها فيما عرف بالتنظيمات العثمانية في العام 1839 ومن ثم ما تلاها من إصلاحات أخرى آخرها إقرار الدستور العثماني في العام 1876. غير أن إقرار الدستور لم يدم أكثر من سنتين، حيث انقلب عليه السلطان عبد الحميد الثاني إلى أن قامت الثورة عليه عام 1908 ومن ثم عام 1909.الانقلاب على عبد الحميد كان إيذانا ببدء حكم الاتحاد والترقي، الجمعية التي استلمت السلطة حتى انهيار الدولة العثمانية في العام 1918.شعارات الحرية والعدالة والمساواة المأخوذة في الثورة الفرنسية لعام 1789 طبعت محاولات الإصلاح لإنقاذ الدولة من التراجع الذي كان بدأ مع نهاية القرن السابع عشر وشهد هزائم متتالية فقد من بعدها العثمانيون حس التوسع والتمدد.لم تنفع محاولات الإصلاح في إنقاذ الدولة من الانهيار المريع بسبب الحرب العالمية الأولى. وعندما انتهت الحرب وطويت الصفحة العثمانية من تاريخ تركيا الحديث كان الأتراك على موعد مع تجربة جديدة واختبار جديد.كان السؤال دائما هو نفسه الذي كان مطروحا في العالم الإسلامي، أي كيف نحقق التقدم تجاه التحدي الذي يمثله الغرب.الرجل الذي قاد حرب التحرير الوطنية وأعاد تحرير تركيا وتوحيدها ولو في حدودها الأناضولية الحالية مع بعض من القارة الأوروبية، هو نفسه الذي خاض معارك شرسة لتغيير هوية تركيا أو على الأقل وجهها. لم يكن مصطفى كمال أتاتورك قائدا عسكريا فذا فقط، بل كان يحمل مشروعا سياسيا وفكريا جذريا يأمل من خلاله وضع تركيا في مصاف الدول المتقدمة.وغالبا ما اكتسب أتاتورك صفة العدو للدين. ومع أن ذلك لم يكن دقيقا، غير أن إصلاحاته مست بالمظاهر الإسلامية لتركيا، من إلغاء الخلافة والسلطنة وإغلاق الزوايا والتكايا والتعليم الديني واعتماد القانون المدني السويسري، وصولا إلى إقرار العلمنة في النظام بعيدا عن الأحكام الشرعية والدينية.في سياق المشروع التغريبي لأتاتورك جاءت خطوات قد تبدو شكلية لكنها كانت تمس صميم الهوية الثقافية للمجتمع، إذ أقر تغيير الأبجدية العثمانية المعتمدة بأبجدية لاتينية. الأبجدية السابقة كانت العربية مضافا إليها بعض الأحرف الفارسية وقلة من الحرف التركية الأصلية، أما الأبجدية اللاتينية الجديدة فهي الفرنسية أساسا مضافا إليها بعض الحروف الألمانية.استغرق التغيير بضع سنوات، وكانت الحجة أو الذريعة الأساسية لأتاتورك أن اللغة العثمانية صعبة ولا تلبي الحاجة لإزالة الأمية المنتشرة في صفوف الشعب. وهكذا حصل ما حصل ولا تزال الأبجدية اللاتينية هي المعتمدة حتى الآن في اللغة التركية.لم يكن تغيير الأبجدية مجرد تغيير في الشكل، إذ بالتغيير فقد الأتراك القدرة المعرفية على التواصل مع كل تراثهم المكتوب بالأبجدية العربية والفارسية.آلاف المخطوطات والكتب وملايين الوثائق، فضلا عن النقوش والكتابات المتناثرة في كل مكان في المقابر والجوامع والقلاع وغيرها، باتت عصية على فهم الجيل الذي تعلم اللغة بالأبجدية الحديثة. وهو ما جعل هذا الجيل منقطعا عن الشجرة التي تدلى منها.دعوة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إلى العودة إلى اللغة العثمانية كلغة ثانية في المدارس أتت في سياق عودة الفرد التركي إلى ماضيه.أردوغان يقترح تدريس اللغة ساعتين أو ثلاث ساعات يوميا للطلاب في المدارس.هذا أمر معقول ومطلوب، ذلك أن الحداثة في جوهرها ليست في تغيير الأبجدية. فها هم اليابانيون أو الصينيون أو حتى اليهود أو الهنود لم يغيروا في أبجديتهم وكلها أبجديات غاية في الصعوبة ومع ذلك كانت اليابان عنوانا للتقدم، وكذا أصبحت الصين.لكن ما يجب ألا ننساه أن تغيير اللغة في عهد أتاتورك كان في سياق مشروع سياسي وثقافي ويخدم أهداف هذا المشروع.واليوم مع العودة إلى تعليم اللغة العثمانية ولو كلغة ثانية إنما أيضاً في سياق المشروع المضاد الذي يقوده أردوغان في الداخل والخارج وليس مجرد خطوة منعزلة قائمة بحد ذاتها.