10 سبتمبر 2025
تسجيلأسالت قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي وما زالت تسيل الكثير من الأحبار والأخبار والتقارير والنقاشات والجدل حول علاقة السلطة بالمثقف وكيف تنظر إليه.. هل هو عنصر يلعب دورا مهما في صناعة القرار وفي قراءة الواقع للسلطة حتى توجه بوصلتها في الاتجاه السليم أم أنه يلتزم المدح والتسبيح والتنظير لقرارات السلطة مهما كانت سيئة وسلبية وفي غير صالح الشعب والمجتمع. علاقة الأنظمة العربية بالصحافيين وبالمؤسسات الإعلامية يعرفها الجميع منذ أن انتشرت الصحف والجرائد والمجلات ومن بعدها المحطات الإذاعية والمحطات التلفزيونية ثم الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي وغير من المحطات الرقمية. فبكل بساطة إذا نظرت وشرعت ومدحت السلطة فأنت من المبجلين و"المبشرين بالجنة"، أما إذا تبنيت الالتزام والصدق والمهنية وخدمة المصلحة العامة وتقديم الحقيقة للرأي العام، في هذه الحالة ستكون من المغضوب عليهم الذين قد يتعرضون لأي مكروه في أي وقت. حادثة خاشقجي ليست هي الأولى وليست هي الأخيرة في وطننا العربي، هناك المئات بل الآلاف من قضايا السجن والتعذيب والتصفية الجسدية للعديد من الصحافيين والأدباء والمفكرين والسياسيين والشعراء والفلاسفة وغيرهم. فبدلا من طرح آراء وأفكار هؤلاء المثقفين للنقاش والتفكير والحوار والجدل حتى تتكون لدينا سوق حرة للأفكار وبذلك يكون لدينا فضاء عام نشط وفعال يصب في مصلحة المجتمع برمته.. هذا المناخ سيفرز بطبيعة الحالة بيئة صحية تشجع على الرأي والرأي الآخر للخروج بأحسن الأفكار والقرارات. فالاعتقال والتصفية الجسدية والاغتيالات ما هي إلا صفة الجبان الذي لا يجرؤ على المواجهة والمناظرة لإثبات صحة آرائه وأفكاره وقراراته.. الحاكم الرشيد هو الذي يعطي الفرصة للجميع للتعبير عن أفكاره وبطبيعة الفكرة الأصلح والأنفع هي التي يؤخذ بها أيا كان مصدرها. فالعبرة هنا ليست في ماهية الشخص أو مكانته بقدر ما هي قيمة هذه الفكرة وقوتها ورزانتها وفائدتها للمجتمع وللأمة. مسلسلات الاعتقالات والتصفيات الجسدية ليست هي الحل للأنظمة التسلطية والاستبدادية والدكتاتورية، فهذه التصرفات الهمجية لا تصحح أخطاءهم وقراراتهم التي لا جدوى من ورائها إلا الجهل والتخلف والعنف والاضطهاد. الاعتقالات والاغتيالات لا تحل مشاكل الشعب من فقر وجوع وظروف حياتية صعبة وقاهرة. إذا كانت آراء المثقف واهية وضعيفة ولا ترقى إلى أن يتبناها الفضاء الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي فإنها تزول وتندثر، أما إذا كانت هذه الآراء والأفكار فيها ما يرجع بالخير على الأمة فيجب على السلطة والحاكم وصانع القرار أن يرحب بها حتى ولو كانت مختلفة ومتعارضة مع أفكاره. بيئة الخوف هذه وبيئة الاعتقالات والتصفيات تفرز نوعية من أشباه المثقفين الذين يتجنبون كل ما من شأنه أن يغضب ويزعج السلطة. هذه البيئة تفرز الرقابة الذاتية والهروب من أي شيء من شأنه تصحيح التجاوزات والأخطاء وكل ما من شأنه أن يضر المجتمع بدلا من إصلاحه ووضعه في النهج السليم. الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة العربية والأمة الإسلامية تكشف القناع عن أشباه المثقفين والمفكرين والسياسيين ورجال الدين والفقهاء الذين انحازوا إلى الظلم والباطل على حساب قول الحق والتصدي للظلم الجائر وإلى الغطرسة والجهل والتمرد على المنطق والواقع. إشكالية المثقف ودوره وأزمته ومكانته في المجتمع تبقى من الإشكاليات المهمة والرئيسية المطروحة على الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في الوطن العربي. هل من مكانة للمثقف في مجتمع يفتقد لمستلزمات التفكير والتعبير عن الرأي والحوار والمناقشة والحريات الفردية وحرية الصحافة وما إلى ذلك من مستلزمات وشروط الإنتاج الفكري الناضج الذي يستطيع أن ينّظر ويؤّسس للتغيرات والتحولات المهمة والمصيرية في المجتمع. التجارب التاريخية في الوطن العربي تشير إلى مرض الاغتراب والتهميش والإقصاء الذي عانى وما زال يعاني منه المثقف العربي عبر الأجيال والعصور، ففقدان الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، كلها عوامل أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وتهميشه سواء داخل وطنه حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه ولا يتفاعل معه كما ينبغي لأنه إذا فعل ذلك فإنه يخاطر بحياته ومصيره، أو أننا نجده يلجأ إلى الهجرة طلبا للحرية ولمتنفس يجد فيه مجال للتفكير والإبداع، لكن تبقى الغربة والعيش خارج المحيط الطبيعي للمثقف بمثابة الموت البطيء. والمثقف مهما كانت الصعاب والمشكلات والعراقيل يبقى دائما مسؤولا إزاء مجتمعه لتحقيق الأهداف النبيلة التي يناضل من أجلها وهي العدالة والمساواة والحرية والقيم الإنسانية النبيلة ومن أهمها توفير الظروف المناسبة للفكر والإبداع. المجتمع الذي يقصي نخبته المثقفة ويعرضها لشتى أنواع التعذيب والاقصاء والتهميش وفي بعض الأحيان السجن والقتل يكون مجتمعا بدون روح وبدون فكر وبدون نخبة من المثقفين العضويين ونخبة من المفكرين تنّظر وتنتقد وتقف عند سلبياته وهمومه ومشاكله وتناقضاته وإفرازاته المختلفة. هذا النوع من المجتمع لا يستطيع أن يكون مجتمعا يتوافر على شروط النجاح والإبداع والحوار والنقاش البناء والجاد بين مختلف الفعاليات والشرائح الاجتماعية. ما هو دور المثقف في المجتمع؟ وما هي علاقته بالسلطة؟ أسئلة تفرض نفسها في الوطن العربي وخاصة في الأزمات المتعاقبة والعويصة. في البداية نتساءل عن مكانة المثقف في المجتمع وعن وضعيته وعن الدور الموّكل إليه. ولماذا نتكلم دائما عن أزمة المثقف؟ لماذا مثلا لا نتكلم عن المثقف العضوي في المجتمع، المثقف الذي ينتقد ويقف على هموم وشجون المجتمع، المثقف الذي يعمل على تغيير الواقع وليس تكريسه، المثقف الذي يساهم في صناعة الفكر والرأي العام، المثقف الذي يحضر مجتمعه شعبا وقيادة لمواكبة التطور الإنساني والحضاري والتفاعل الإيجابي مع ما يحدث في العالم. ما هي إذن علاقة المثقف العربي ببيئته؟ أي علاقة المثقف بالسلطة وعلاقة المثقف بالجمهور وعلاقة المثقف بالقضايا اليومية للمجتمع وعلاقة المثقف بالقضايا الطارئة. فالمثقف الذي يعمل ليل نهار من أجل إرضاء السلطة والتنظير لها وتبرير كافة أعمالها سواء كانت صائبة أو خاطئة لا يستحق أن يلقب بالمثقف. هذه النوعية من المثقفين تسمى بأشباه المثقفين وإذا انتشرت في المجتمع فإنها تنشر ثقافة الاستسلام والرضوخ وثقافة التملق والنفاق والقضاء على بذور الديمقراطية من أساسها لأن الديمقراطية تقوم على الحوار والنقاش والاختلاف في الرأي. فالمثقف الذي يستحق هذه الصفة هو ذلك المثقف الذي يعيش هموم وانشغالات الغالبية العظمى من الشعب، المثقف الذي حدد دوره "نعوم تشومسكي" في إشهار الحق في وجه السلطة، والذي حدده الفيلسوف الإيطالي "غرامشتي" في دور المثقف العضوي الذي يحمل هموم المحرومين والمهمشين والذي ينظر وينشر الوعي والفكر العمالي من أجل انتصار الغالبية العظمى في المجتمع على القلة القليلة التي تتلاعب بثرواته وخيراته.. مع الأسف الشديد هذه النوعية من المثقفين لا تطيقها الأنظمة العربية، بل تقوم بسجنها واغتيالها والتخلص منها نهائيا.