15 سبتمبر 2025

تسجيل

 اجعلني على خزائن الأرض

13 سبتمبر 2018

   يقوم الملك مفزوعاً من نومه.. سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.. رؤية مزعجة يقرر بعدها استدعاء مفسري الرؤى من صباح الغد، حتى إذا اجتمعوا عنده، خرجوا برد واحد ملخصه، أن ما رآه مجرد أضغاث أحلام..    في المشهد التالي.. يذهب ساقي الملك إلى يوسف عليه السلام، الذي صاحبه فترة من الزمن بالسجن وقد عرفه صاحب تأويل صادق للرؤى من بعد تجربة شخصية معه، فعرض رؤية الملك عليه، فكان ملخص تأويله أن البقرات السمان إشارة إلى أعوام سبعة خصبة ستعيشها مصر، ومن ثم تأتي سبع سنوات عجاف على البلاد وما حولها من بلدان مجاورة. قحط شديد وقلة زاد. بلغة الاقتصاد الحديث، سيكون اقتصاد مصر في نمو واستقرار لسبعة أعوام ثم سنوات سبع صعبة، وما لم يتم الاستعداد لهذا الخطر القادم عبر خطة اقتصادية إستراتيجية دقيقة، فإن البلاد والعباد سيكونون في خطر شديد.. أعجب التأويل الملك، فقال ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) .. هاتوا هذا المفسر العارف بالأحلام والرؤى ليكون من خلصائي وجلسائي في القصر. وأتاح له وأعطاه الكثير، من بعد أن ظهرت براءته كذلك أمام الملأ، وقال له ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ).     ما العمل يا يوسف..     هكذا كان لسان حال الملك بعد أن جعل يوسف من أصحاب القرار في المملكة، فكانت الإجابة الفورية منه عليه السلام ( اجعلني على خزائن الأرض. إني حفيظ عليم )، فالأزمة القادمة - كما قال سيد قطب في ظلاله - وسنوات الرخاء التي تسبقها، في حاجة إلى الحفظ والصيانة، والخبرة وحسن التصرف، والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة، في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيراً كبيراً لشعب مصر وللشعوب المجاورة.. ولم يكن يوسف يطلب لشخصه. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غُنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية، لا يقول أحد أنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.  التساؤل المشروع..    ها هنا قد يسأل سائل فيقول: النبي يوسف عليه السلام يعرض نفسه لتولي أمر الخزائن، وهي أشبه بوزارة المالية والاقتصاد اليوم. فكيف يزكي نفسه ( إني حفيظ عليم ) ويطلب الوزارة ( اجعلني على خزائن الأرض) وهي أمور عكس ما تعارفنا عليها عندنا في الإسلام.. فكيف يمكن التعامل مع هذا التساؤل؟    المتعارف عليه إدارياً وفي كثير من الثقافات أن الساعي إلى ولاية أو سلطة، فإنما غالباً يرجو مصلحة ما من وراء ذلك، وفي سبيل تحقيق مراده سيزكي نفسه بكل صورة ممكنة.. وبسبب هذا المنطق السائد، نجد أن طالب الإمارة أو الرئاسة لا يُلتـفت إليه، بل إن الريبة والشك ستكونان حاضرتان من فورهما عند صاحب القرار وهو يسمع منه مثل هذا الطلب.. إلا إذا كان صاحب القرار هذا مغامراً جريئاً ليتخذ قرار الاستجابة لهذا الإنسان، أو أن يكون صاحب فراسة سليمة وقوة حدس عميقة تدعوه إلى الاقتناع بأن هذا الإنسان يستحق الانتباه. وهذا هو ما حدث بين الملك والنبي يوسف عليه السلام.        الملك أعجبته تأويلات يوسف لرؤياه، وأعجبته أمانته في قصته مع النسوة، وأعجبته أكثر وأكثر، خططه لمواجهة كارثة حقيقية قادمة، والتي خاف منها وارتعب وهو يرى أمامه خمس عشرة سنة قادمة لا يدري كيف ستكون.. إن مثل هذه الأزمات كما أسلف الأستاذ سيد قطب، يهرب منها الجميع لصعوبتها وقسوتها. إذ لا توجد ضمانات كافية للنجاح في إدارتها، وبالتالي ستكون نتائجها وبالاً على من يتولى الأمر، وقد ينتهي به الأمر إلى الإقصاء أو ربما أشد.. فأي مسؤول يطلب الفواجع والكوارث لنفسه؟ غالباً لا أحد، إلا ما رحم ربي من الشجعان وقليل ما هم. ذلك أن الغالبية تطلب إدارة ما يمكن الاستفادة منها والتكسب من ورائها مادياً ومعنوياً.. أموال وترقيات ومناصب وشهرة وسمعة. فهكذا هي النفس البشرية، تبحث عن الأسهل والأيسر.. هل يجوز أن يزكي الإنسان نفسه؟     في موقف النبي الكريم يوسف عليه السلام، ليس هناك من شك أبداً أنه حين مدح وزكى نفسه، لم يكن يقصد مغنماً أو شهرة أو غير ذلك مما يتهافت الناس عليها من وراء سعيهم للمناصب والمراكز العليا في البلاد.. إنه عليه السلام، وقد رأى وضع البلاد أولاً وما هي مقبلة عليه في السنوات الخمس عشرة القادمة، ورأى ثانياً في الوقت ذاته رغبة ملكية في أن يكون ضمن أصحاب القرار في البلاد، وأثر وجوده في تلك المنزلة على مسألة الدعوة إلى الله والتبشير بدين آبائه من موقع المتمكن، وبالتالي تكون فرصة لإنقاذ العباد والبلاد من أزمة جوع حقيقية مهلكة، بما توفرت لديه من قدرة على إدارة تلك الأزمة التي تتطلب أمانة وصبراً اكتسبهما من فترة مكوثه بالسجن مظلوماً، وعلماً اكتسبه دون شك بوحي من الله.. أقول: أمام كل تلك المعطيات، عرض نفسه وتقدم لتولي الأمانة. إذن هو الأجدر والأقدر والأكفأ على تولي تلك المهمة. هكذا كانت قناعته عليه السلام، بدلاً من أن يتقدم للأمانة تلك، بعض مستغلي الأزمات والكوارث الذين يجدون في تولي مثل تلك المناصب الكبيرة، فرصة للثراء والتكسب وإن كان على حساب جوع وهلاك الناس.. ولك أن تتصور أزمة غذاء في بلد تسكنه ملايين من البشر، وتكون على أمر خزائن وصوامع الغذاء في ذلك البلد، يأتمر الناس بأمرك كيف شئت.. أليس ذاك يدعو إلى التربح والتكسب والاستغلال، خاصة إن آل الأمر إلى ضعيف نفس ودين وأخلاق؟ أليس هذا ما يحدث أو حدث على مدار التاريخ في أمم وحضارات كثيرة؟    من هنا تلاحظ أنه لا بأس من التقدم للمناصب والوظائف المهمة التي تمس حاجات وهموم الناس بشكل مباشر، لمن يعتقد جازماً في نفسه أنه أهل للمنصب، تشفع له سيرته الذاتية مع خبراته وعلمه وأمانته وإخلاصه.. إنه ليس صحيحاً أن كل من تقدم لطلب المسؤولية يُرفض، بل يتم النظر لكل حالة على حدة. كما أنه من عدم الأمانة التهرب من المسؤوليات الحساسة وقت الحاجة، لأن هناك الكثير من الأكفاء في أي مجتمع، جديرون بتولي المسؤوليات. لكن تواضعهم ورغبتهم في البعد عن الأضواء والشهرة وكل ما يمكن أن يخدش أمانتهم مستقبلاً، تجدهم يتوارون عن الأنظار وفي اعتقادهم أن مثل تلك المسؤوليات خزي وندامة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، أن يوليه الإمارة. فقال له:"  يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها ".  نعم الحديث صحيح، لكن لا يمكن تعميمه على كل الظروف والأشخاص. بمعنى أن الإمارة أو طلب المسؤولية سيكون فعلاً خزي وندامة إذا سعى وراءها من هو ضعيف عليها، علمياً وإدارياً وأخلاقياً..   دور ولي الأمر     هنا يتبين لنا جانب مهم آخر في المسألة، هو دور ولي الأمر ومن معه في الحكم أو الإدارة والمسؤولية. وضرورة البحث المستمر عن الكفاءات والكوادر الأمينة المخلصة في البلاد. بحيث يتم توليتهم المسؤوليات أو الأمانات إن صح التعبير، ومن لم يتم استعماله في أي مهمة بعد، يكون ضمن قائمة المؤهلين لشغل المناصب والمهام الكبيرة مستقبلاً.. لابد أن يكون هناك بحث مستمر من الطرفين. الطرف الأول المتمثل في ولي الأمر ومن معه وعبر مؤسسات الحكم المتنوعة، ضرورة البحث الدائم عن الكفاءات الأمينة المخلصة في المجتمع وفق آليات واضحة، والطرف الثاني وهم تلك الكفاءات المخلصة الأمينة ذاتها، بأن تتقدم لأي مهمة يرون أنفسهم على درجة من الكفاية والأهلية لشغلها، بدلا من الانكفاء على الذات والتواري عن الأنظار، لأن التواضع في مثل هاهنا مواضع، أشبه بارتكاب خطيئة في حق المجتمع.   إن أي تكاسل من أي طرف في هذا الأمر، هو إضاعة للأمانة. فالأمين، أي أمين، حين يجد في نفسه المقدرة والكفاءة لتولي منصب ما، ثم يتردد أو يتعذر أو ينزوي لأي عذر أو سبب، هو إضاعة للأمانة. وبالمثل حين يجد ولي الأمر كفاءة أمينة مخلصة، ويتم تجاوزها أو التفريط بها لأي سبب من الأسباب، هو إضاعة للأمانة أيضاً. لماذا؟ لأنه بذلك يساهم الطرفان بعملها ذاك، في فتح ثغرة يتسلل إليها عديمو القدرة والكفاءة، الباحثون عن الشهرة والأضواء والمنافع، ولهم طرقهم وأساليبهم في الوصول إلى ما يشتهون، حيث تضيع بسببهم الأمانة التي سأل عنها الصحابة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وكيف تكون إضاعتها؟ فقال:" إذا وسّد الأمر إلى غير أهله ".