12 سبتمبر 2025
تسجيلنقرأ في صفحات كتب التاريخ الصراع الأبدي بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية في الكثير من الدول التي لم تحسم الأسس والمبادئ الديمقراطية التي يجب أن يلتزم بها كل طرف. عديد الدول الإفريقية عودتنا على انقلابات عسكرية يغتصب من خلالها العسكر السلطة مبررا ذلك بإصلاح قضايا الأمة والتخلص من الحاكم "الطاغية" و"المتسلط" و"المتجبر". ويدعي الانقلابيون الذين جاءوا إلى الحكم أنهم يريدون بسط الديمقراطية والعدالة الاجتماعية رغم أنهم استعملوا طرق غير ديمقراطية للوصول إلى الحكم. والغريب في الأمر أن الحكومات العسكرية لم تأت بجديد وإنما جاءت بالأسوأ وبقي الشعب يعاني الفقر والاستبداد والظلم. هذه الانقلابات بطبيعة الحال أُزمت الأمور سواء على الصعيد المحلي أو الدولي وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الانتهازيين والوصوليين للعبث بأموال الشعب وبالاستقرار والأمن والطمأنينة. وحسب الأعراف الدولية والدساتير والأحكام فالجيش لا يحق له أن يتدخل في القضايا المدنية التي هي في الأساس من صلاحيات المؤسسة السياسية. والأخطر في الانقلاب العسكري هو فقدان المصداقية وإتاحة الفرصة للآخر للعبث في مصالح الوطن والأمن القومي وأمور كثيرة قد تؤثر على سيادة البلد. ما حدث في تركيا يشير إلى تجربة هذا البلد مع الانقلابات العسكرية والتي تتمحور أساسا حول الديني واللائكي. فمشروع أردوغان لم يرض البعض سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فعلى الصعيد الدولي هناك رهانات كثيرة سواء في منطقة الشرق الأوسط خاصة ما يدور في سوريا وتداعيات هذه الأزمة على كافة الأصعدة. أما أوروبيا فالأمر واضح تماما وتجلى ذلك من خلال ردود الأفعال المحتشمة لمعظم دول الاتحاد الأوروبي إزاء الانقلاب. فالكثير من دول المنطقة ودول الاتحاد الأوروبي كادت تبارك الانقلاب وترحب به؛ وهذا ما يدل على أن مشروع أردوغان يزعج ويقلق الكثيرين. تركيا قبل الانقلاب ليست هي ذاتها بعده، فمادامت الحكومة تواصل حملة تطهير جذري داخل المجتمع طالت كل من تشتم فيه رائحة المعارض فتح الله جولن، المتهم رقم واحد بهندسة الانقلاب، لكن الخارج وتحديدا أوروبا يقف على النقيض ويعتبر رد فعل أردوغان مبالغا فيه ويرقى لأن يكون انتقاما تم إعداده سلفا لتفكيك منظمة "خدمة" التابعة للمعارض جولن، والتي تضم مئات المستشفيات والمدارس والمصارف داخل تركيا. وبين هذا وذاك، يقف المتتبع للمشهد التركي حائرا وباحثا عن إجابة مقنعة على بعد نفس المسافة بين الطرفين. تخطت الأزمة حدود بلاد الأناضول، وأصبحت إقليمية بامتياز عندما أعلن الاتحاد الأوروبي عن موقفه إزاء ما جرى، والذي قدر أن القيادة التركية كانت تكن لهؤلاء الأشخاص حقدا قديما وأن القائمة كانت مبرمجة سلفا قبل وقوع الأحداث، ومبررها في ذلك سرعة اتخاذ قرارات الاعتقال خارج دائرة القضاء، وكذلك العدد المرتفع للمعتقلين، كما لوح بحرمان تركيا من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حال استمراره في توسيع دائرة الاعتقالات وفي حال إعادة تفعيل حكم الإعدام الذي تم تجميده سنة 2004 امتثالا لشروط الانضمام. واصل الأتراك اعتصامهم في الساحات العمومية تحت شعار "صون الديمقراطية"، وهم يهتفون بتنفيذ عقوبة إعدام مهندسي الانقلاب، وتفاعلت معهم القيادة بالإيجاب، شريطة تمريره عبر البرلمان، وإن وافق فلا ترى مانعا في تفعيله وضرب أعناق من وصفتهم بالخونة، لكن هذا المطلب لم تستسغه دول غرب أوروبا، ورأت فيه فرنسا مثلا على لسان وزير خارجيتها، أنه خطوة إلى الوراء تُبعد أنقرة عن الاتحاد الأوروبي الذي لا يجيز تنفيذ مثل هذه العقوبات، وسارت النمسا في الاتجاه ذاته وهددتا بعدم فتح جولات جديدة في مفاوضات الانضمام بداعي "أن السلطات التركية تنفذ حملة قمع مبرمجة وعملية انتقام وعقاب جماعي، ولا وجود لمؤشرات على أنها تقوم بتطبيق القانون". وانضمت ألمانيا إلى صف الرافضين لكيفية تعاطي القيادة التركية مع الأحداث، إذ أكدت حكومتها أنه "لا مكان في الاتحاد الأوروبي لدولة تنفذ أحكام الإعدام"، وأن "أي تحرك من جانب تركيا لإعادة عقوبة الإعدام ستبخر جهودها في الانضمام"، ليأتي الرد سريعا من أنقرة واصفا التصريحات بالتدخل في الشأن التركي ولا يحق لأي كان تقييم تلك الإجراءات ما عدا الشعب صاحب السيادة والسلطة. تسارع الأحداث في تركيا واستهداف أتباع وموظفي منظمة "خدمة"، دفع المعارض التركي، فتح الله جولن، المتهم الأول بتدبير الانقلاب، إلى الظهور في مقابلة تلفزيونية هي الأولى مع قناة "الغد"، ودافع عن نفسه رافضا الاتهامات التي يكيلها له أردوغان، ووصفها بأنها "برنامج لتدمير منظومته تحت غطاء الانقلاب، وسبق له أن وظف اتفاقيات اقتصادية للضغط على الحكومات لإدراجنا كجماعة إرهابية من قبل، وكان قد استغل قضية قطاع غزة وعنوان الإخوان المسلمين كسجل تجاري ليحقق حلم الزعيم". أبدى جولن استعدادا لقبول أي اتهام بشرط أن يكون ناتجا وموجها من لجنة تقص دولية، متحديا امتلاك حكومة بلاده براهين وأدلة دامغة تثبت ضلوعه في العملية الانقلابية، أو تثبت تفوهه بكلمة واحدة تدعو إلى الانقلاب. وتسير علاقة تركيا بالمحيط الخارجي إلى مزيد من التعقيد، كلما أبدت أنقرة جدية في تفعيل عقوبة الإعدام لمعاقبة من تورطوا في محاولة الانقلاب، والذهاب إلى أبعد الحدود في استئصال من تشتم فيهم رائحة جماعة "الخدمة" التابعة لفتح الله جولن، وهي نقطة الاختلاف الجوهرية التي تفرق المواقف، بين من يراه استغلال أردوغان الأحداث لتصفية خصومه، قد يؤدي إلى تمزق النسيج الاجتماعي، وبين من أعطاه الحق بحكم أن ما جرى كاد يعصف بانسجام واستقرار الدولة. ختاما تجدر الإشارة إلى طبيعة الصراع على السلطة في تركيا، تلك التي خلفتها محاولة الانقلاب، فضلا عن طبيعة تركيا التي يريدها أردوغان أو حتى تلك التي يريدها الجيش أو التي تريدها الأحزاب الثلاثة الأخرى المشاركة في الحياة السياسية، وبالتالي يمكن القول إن الأيام القليلة المقبلة هي الوحيدة الجديرة بإخبارنا عن مستقبل تركيا .