01 نوفمبر 2025
تسجيلأشغلتنا ثورتا تونس ومصر قبل سنوات مضت، ورأينا حينها كيف أن عسكر تونس لم يقف في وجه شعب، كان يزيد من سرعة خطواته لاجتثاث نظام بن علي البوليسي، ونجح في ذلك دون تدخل من الجيش، وتولى مدنيون إدارة البلاد لحين من الدهر لم يدم طويلاً كما أراده الشعب، بل عادت الأمور إلى وضع غريب، ربما صار فيه المدنيون في الحكم، عساكر أكثر من العسكريين ! في حين وجدنا العكس في مصر، الذي بدأ عسكره يتلون بحسب توجهات الشارع وقوته، متوارياً عن الأنظار حيناً من الدهر لم يدم طويلاً أيضاً، حتى إذا ما جاءته الفرصة ليعيد ترتيب أوراقه، انقض على الوضع واستمر في سيطرته ويعود للعلن مجدداً، ولكن بأقسى وأسوأ مما كان.. فيما الوضع حينذاك في اليمن وليبيا وسورية منذ أن اضطربت الأحوال فيها وإلى يومنا هذا، لا يحتاج لكثير شروحات، فالواقع اليوم يتكلم عن نفسه في البلدان الثلاثة الأخيرة. منذ أشهر قليلة مضت، عادت جذوة الثورات تتقد من جديد في كل من السودان والجزائر. أوضاع البلدين لا تختلف أبداً عن مصر، باعتبار سيطرة العسكر في كل من السودان والجزائر ومصر على مجريات الأمور في الحياة المدنية، من الألف حتى الياء، وأن ما جرى في مصر من حماسة شعبية قادت الملايين للخروج على النظام العسكري، انتهت سريعاً بعد مشاهد دراماتيكية غريبة، أدت إلى تمكن العسكر أكثر مما كانوا عليه طوال عقود ستة مضت ! ما جرى في مصر هو الذي يجري الآن في السودان والجزائر.. إذ على رغم بقاء الناس في الميادين وبقاء الروح الثورية المتحمسة في نفوس الآلاف من السودانيين والجزائريين، إلا أن تطورات الأمور السريعة والدراماتيكية في السودان، تنذر باحتمالية تكرار السيناريو المصري، وإن اختلفت بعض المشاهد، لكن المحصلة النهائية التي تدفع بها الأحداث للوصول إليها، تفيد أن العسكر ما جاءوا للحكم ليغادروه هكذا سريعاً، ويدفعوا بمقاليد الحكم وإدارة البلاد لمدنيين، بل إن لسان حال العسكر يردد منذ عزل البشير:» لماذا أعطي الحكم لمدنيين، ولماذا لا أحكم أنا ؟ ما المشكلة في أن أتولى إدارة السودان ؟ يدفعهم وبقوة، الثلاثي العربي الغارق في مشاكله مع مشاكل الآخرين، مصر والسعودية والإمارات. الجملة نفسها لا أشك مطلقاً أن لسان حال عسكر الجزائر يردده بصورة وأخرى.. لماذا أترك حكم وإدارة الجزائر، بخيراتها وثرواتها، وأسلمها لمدنيين، بعد أكثر من نصف قرن من الزمان في الحكم ؟ قد تجد عسكر السودان والجزائر يطرحون تلك الأسئلة، والإجابات واضحة عندهم – بحسب فهمهم طبعاً - وملخصها أن لا شيء يدعوهم للتنازل عن أجواء الحكم والسيطرة والصلاحيات والمكاسب والثروات والمنافع والشهرة والأضواء. لا شيء يدعوهم للتنازل لثلة من مدنيين، لا شيء يؤكد أو يضمن مطلقاً أنهم سيكونون بأفضل حال مما نحن عليه الآن، مهما كانت دعاواهم مثالية ونزيهة، فمن هو خارج صندوق الحكم، حيث كل تلك المزايا التي ذكرناها آنفاً، لا يمكن إلا أن يكون مثالياً يدعو للنزاهة والحكم الرشيد، فإذا ما عاصر ما بداخل ذاك الصندوق حيناً من الدهر لا يطول، وجدته عسكرياً أكثر من العسكر أنفسهم.. وطالما أن الحال سيكون كذلك، فالأفضل أن يبقى العسكر، أو هكذا يجول بخواطر وأذهان عسكر السودان والجزائر ومن يقف خلفهم.. ولك أن تضع خطوطاً عدة تحت عبارة (من يقف خلفهم). رهانات الثوار في السودان والجزائر وأوراقهم ضد العسكر قليلة وضعيفة، بل يمكن القول إنهم وحدهم بالميدان، خاصة وأن ما يسمى بالمجتمع الدولي، وقد اتضحت معالم نفاقه وازدواجية المعايير لديه، لا يحرك ساكناً تجاه ما يحدث في كلا البلدين. ذاك المجتمع المسمى بالدولي، لا سيما الغرب ومن بعده الشرق، يبحث عمن يستمر في تحقيق مصالحه أولاً ومن ثم مصالح الآخرين! ما الذي يدعوهم مثلاً للتدخل الحاسم والمؤثر في السودان والجزائر لتغيير أنظمة حكم تسيطر على مقدرات وثروات البلاد، دون أي ضمانة أن من سيأتي خلفاً لهم، سيكون - في مسألة ضمان مصالحهم - أفضل من العسكر؟ لا شيء يؤكد ويضمن، وهذا ما يجعلهم في جدل بيزنطي وحوارات وتصريحات دبلوماسية رنانة أحياناً لكنها جوفاء، لا تسمن ولا تغني ثوار السودان والجزائر من جوع.. ستجد هذا المجتمع بزعامة كبريات الدول الغربية وكذلك الصين والروس، ينتظرون ما ستسفر عنه معركة كسر العظام بين العسكر والمناوئين لهم في كلتا الدولتين، حتى إذا ما رأوا وبما لا يدع أي مجال للشك أن الميزان بدأ يميل لأحد الطرفين، وجدتهم قد وضعوا أقدامهم لإنهاء الأمر لصالح المنتصر وتثبيته، وبالتالي تثبيت أمن واستمرار مصالحهم، وهم في كل الأحوال، مائلون نحو أنظمة ديكتاتورية أو شبه قمعية، ليقينهم الراسخ أن الأنظمة الديمقراطية في البلاد العربية، هي مصدر خطر على مصالحهم، فهكذا أفعالهم ومواقفهم تقول. عسكر السودان وكذلك الجزائر في لعبة دولية كبيرة، وهم كلهم ثقة ويقين أن هذا (المجتمع الدولي) بشكل عام وقوى عربية عديدة تقف بجانبهم في مواجهة تذمر المدنيين.. وهذا ما يجعل تمسكهم بزمام الأمور أقوى وأعنف. والمسألة في رأيي هي غالباً مسألة زمن، ومن يقدر على ضبط نفسه والصبر طويلاً، سيكون بمقدوره تحقيق انجاز ونصر، على رغم أن غالبية المعطيات على أرض الواقع تفيد أن الأمور تتجه لصالح العسكر، على رغم حماسة وإرادة الثوار في كلتا الدولتين، والعسكر يراهن على الزمن كورقة ضاغطة ليس بمقدر المدنيين الصبر طويلاً، في ظل أوضاع اقتصادية تزداد بؤساً وسوءاً مع الأيام. لقد برعت الأنظمة العسكرية الحاكمة حول العالم منذ زمن في استخدام أساليب واستراتيجيات الإلهاء، الذي تحدث عنها تشومسكي ضمن الاستراتيجيات العشر للسيطرة على الشعوب، والتي تقضي واحدة منها وهي استراتيجية الشعور بالذنب، إلى خلق أجواء من البؤس والكساد في المجتمع، وجعل الفرد الثائر أو المتمرد على النظام، يشعر بعد عدد من النكبات والنكسات، أنه سبب هذا الحاصل، فتنشأ عنده عقدة ذنب تجعله يفتر بعد حين من الدهر، ليصل إلى قناعة داخلية أنه لولا الثورة لكانت الأوضاع أفضل مما هي عليه الآن – رغم سوء الأوضاع القديمة – لكن عقدة الذنب تلك تتعاظم بنفسه حتى يبدأ يطالب بما كان قبل الآن، فيحدث شرخ في صفوف الثوار أو المجتمع، وسيلعب العسكر حينها على ورقة التفرقة، أو مبدأ ( فرّق تسد ) ! ولعل العصيان المدني الذي قام به ثوار السودان ولم يدم إلا يومين، والتراجع عنه دون شرح مقنع للأسباب، ربما يأتي ضمن لعبة الصبر بين العسكر وثوار الميدان، أو نتيجة ضغوط الخارج، لاسيما من الثلاثي العربي الغارق في أزمات ومشاكل الآخرين، أو ربما نتيجة سريعة لاستراتيجية صناعة عقدة الذنب، التي لو بدأت تتعاظم في النفوس، فإن نتائجها لن تسر الأصدقاء، لكنها بالطبع تسر الأعداء، وما أكثرهم حول السودان وكذلك الجزائر. لا أريد أن أكون متشائماً محبطاً، لكن واقع الثورتين يفيد أن ثوار الميادين في السودان والجزائر عليهم تغيير تكتيكات وأساليب مواجهة العسكر، دون أن يجرح الثوار أنفسهم، وأهمية التغلغل التدريجي الذكي لداخل جسم المؤسسة العسكرية، الذي ربما يكون أسلوباً ناجعاً، وإن كان يستغرق بعض الوقت، لكنه مؤثر باعتبار أن تفكيك هذا الجسم أو السيطرة عليه، هو الأنسب في المرحلة الحالية بدلاً من المواجهة المباشرة، فالموازين على أرض الواقع غير متعادلة، ودعم الخارج أمر ميئوس منه تقريباً.. هكذا نرى الأمور نحن من بالخارج، لكن من المؤكد أن من هم بالداخل السوداني والجزائري، أدرى بأمور أخرى تغيب عنا - وفي كل الأحوال - لا نريد للشعبين إلا كل جميل، والله حسيبهم وهو نعم الوكيل. [email protected]