29 أكتوبر 2025

تسجيل

الاختيار بين {لا} و{لن} في التعبير القرآني

13 يونيو 2016

يحتاج إلى نظر وتأمل، حيث إن "لا" تنفي الاسم فتكون نافية للجنس، وتنفي المضارع، كما أنها تنفي الماضي، وقد نفت المضارع في قوله تعالى: "وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" الجمعة: 7، وجاء المضارع (يتمنونه) منفيا بـ(لن) في قوله تعالى: "وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" البقرة: 95، فالاختيار كان محصورا بين "لا" و"لن"؛ لأنهما تنفيان الحال والمستقبل، بخلاف بقية الأدوات. والمقام الدلالي واحد؛ فكلتا الجملتين تتحدثان عن اليهود وحبهم للحياة، ولذا حاول المفسرون توضيح العلة في ذلك، فالزمخشري الذي يرى أن (لن) تفيد تأبيد النفي موافقة لمذهبه الاعتزالي في عدم رؤية الله تعالى، يرجع عن هذا الرأي عندما يتعرض لهذا المثال فيذكر أنه لا فرق بين (لا) و(لن) في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد: (ولن يتمنوه) ومرة بغير لفظه: (ولا يتمنونه)الكشاف 6/112. وقد استدرك على الزمخشري كثير من النحاة والمفسرين في هذا التأويل؛ فالجمهور على أن "لن" لا تفيد النفي على التأبيد، يقول أبو حيان بعد عرض رأي الزمخشري: "وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله: إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا ، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان"البحر المحيط 8/164. إذا فأبو حيان يعتمد على السياق في تحليل دلالة (لا) و(لن)، وأن السياق لا يسير على وتيرة واحدة في الدلالة، بل تتغير دلالة الأدوات بتغير السياق، ومن ثم، يمكن فهم استعمال (لن) و(لا) في ضوء هذا؛ فآية البقرة التي فيها (لن يتمنوه) جاءت في سياق حديث طويل عن اليهود، والمقام يتمثل في تأكيد هذه الصفات التي منها حرصهم على الحياة، فجاء قبل الآية بـ(إن) التي تفيد الشك، في قوله تعالى: "إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الله فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، ثم أعقبها بـ(لن) التي تفيد تأكيد النفي، بأنهم لن يتمنوا الموت وأعقبها بأبدا ثم بجملة تفيد التعليل (بما قدمت أيديهم) فالباء للسببية، وبالجملة الخبرية (والله عليم بالظالمين) ثم بالجملة الفعلية (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) وجملة (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، ففي سياق التأكيد على هذه جاءت (لن) لتفيد تأبيد النفي، وبأن هذه صفة دائمة في اليهود، الذين يحرصون على الحياة، وهذه الصفة تترتب عليها آثار كثيرة، وصفات متعددة منها حب المال، والجبن، وعدم مقاتلة المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر... إلخ، أما آية (ولا يتمنونه) في سورة الجمعة، فكان الحديث مقتضبا عن اليهود، الذين زعموا أنهم أولياء الله، وأنهم أحبابه، وأنهم شعب الله المختار، فجاء ليكذب هذا الزعم بأنهم بتأكيد أقل، فالحديث منصب على المسلمين ورسالتهم، وفضلهم على بقية الأمم، وبأنهم أوتوا القرآن وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وهم أمة تعمل بما تعلم، وليسوا كمثل اليهود الذين حملوا الأسفار ولم يفقهوا ما فيها، ولم يعملوا ما بها ، كالحمار الذي لا يدري ما يحمل فوقه، وفي هذا السياق يفند شبهة اليهود التي قد تأتي عرضا في حديث تفضيل اليهود على المسلمين، وفندها بوسائل توكيد أقل؛ ليعود السياق مرة أخرى ذاكرا صلاة الجمعة التي فضل بها المسلمون على غيرهم من الأمم وخاصة اليهود. يخلص من تحليل السياق أن "لا" تدل على حال اليهود في معرض الحديث عن أفضلية المسلمين، وتدل "لن" على الاستقبال في معرض التأكيد على صفة حب الحياة وكراهية الموت.