16 سبتمبر 2025
تسجيلعندما كانت ثورات الربيع العربي ضد معسكر أمريكا في المنطقة - نظام ابن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر - لم يكن من خوف على الرأي العام أن ترتبك مفاهيمه تجاه ذاته وقناعاته أو تجاه أعدائه وخصومه أو تجاه ما يجب تغييره أو الصبر عليه؛ فالنظامان الساقطان اجتمعت في كل منهما أسباب الثورة عليه وأهمها سببان لا يختلف على التبرير بهما عاقلان ولا يتناطح فيهما كبشان؛ الخصلة الأولى ما يتعلق بالوضع الداخلي وعلاقة كل منهما بشعبه وطريقته في التعامل مع السلطة ومقدرات الأمة، فكلاهما كانا فاسدين مستبدين مزيفين مجرمين كذابين نهبا البلاد وأذلا العباد.. الخصلة الثانية ما يتعلق بعلاقة كل منهما بأعداء الأمة وقضاياها الإستراتيجية، فقد كانا خؤونين عميلين للصهاينة، ذليلين منبطحين للهيمنة الأجنبية وقبلا أن يترسبا في قعر المعادلة الصهيونية.. لذلك وجدنا الغرب يقف مع هذين النظامين حتى آخر لحظة.. وذلك ذاته هو الذي جمع الناس في صعيد واحد ضدهما يرددون ذات العبارات ويرفعون نفس الشعارات ويطالبون بنفس المطالب متناسين الفروق بين تياراتهم وأحزابهم وانتماءاتهم.. ثم انتقلت الثورات إلى داخل معسكر المقاومة – إلى اليمن وسوريا وليبيا – صحيح أن هذه النظم لم تكن سواء في تبني ودعم المقاومة وصحيح أنها كانت تتصرف من وحي أهدافها واستثماراتها ؛ لكنها في الحد الأدنى لم تكن على علاقة منتظمة أو مجاهرة مع (إسرائيل) ولم تكن مستجيبة بالقدر الكافي لمقتضيات تجسيد المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة.. وبعيدا عن الغوص في تفاصيل انتقال الثورة من هذا المعسكر إلى ذاك وما إن كانت لأمريكا يد في ذلك، فالمسألة تظل مجرد ظنون وتحليلات أكثر منها معلومات وحقائق وقد يأتي اليوم الذي تتكشف فيه هذه الأمور.. الأهم أن الانتقال حصل.. وأن الثورات انطلقت وليس لأحد أن يستنكر انطلاقها ضد نظم صماء لا تسمع إلا نفسها، عمياء لا ترى إلا ذاتها.. انطلقت الشعوب المقهورة وحق لها أن تثور على قاهريها.. ثارت الشعوب ولكن زوايا النظر اختلفت، والأمة افترقت، وبات المشهد كالتالي؛ شعوب ثائرة ومحقة تستغيث بسكان الكرة الأرضية لإيقاف شلال الدماء البريئة، وصارت لا مانع لديها أن تتدخل أمريكا أو حتى الشيطان لإنقاذ الأبرياء.. وثورات غير منسجمة وغير موحدة وأحيانا غير ناضجة وقد يكون بعضها مخترقا.. ونظم كانت إلى وقت قريب في معسكر المقاومة – كنظام بشار الأسد - وهي تستخدم رصيدها من المقاومة في قمع شعوبها وتدمير بلدانها، ثم لما استنفذت هذا الرصيد لجأت لمنطق الطائفية البغيضة المختلطة أصلا بالعمالة للأجنبي كنظام المالكي.. خصوم المقاومة التاريخيون وخصوم سوريا وليبيا "القديمون" يدعمون الثورات ويتباكون على دماء الأبرياء النازفة، ليس حبا في الثورات ولكن اجترارا لعداوات سابقة وتصفية حسابات قديمة، وهي تحاول تسويق مقولاتها القديمة التي أنشأتها ضد مشروع المقاومة أصلا. ذلك كله أربك الكثير من القناعات وخلط الكثير من المفاهيم.. وأسقط لدى البعض الحواجز الفكرية والنفسية والسياسية التي انبنت عبر عشرات السنين كمكتسبات للتجربة والاستقلال.. وتضاربت مواقف واتجاهات الرأي العام الذي لا يتهم في إخلاصه بقدر ما يدان فهمه للأمور وزوايا نظره وتحليله للأحداث.. فصار بعض من اعتدنا نسمعهم أو نقرأ لهم يدافعون عن المقاومة؛ صاروا يهاجمونها وتنحط لغتهم ومصطلحاتهم إلى مستوى ما كان يقوله ومازال يردده ضدها عملاء أمريكا وإسرائيل، ورأينا حزب نصر الله والنظام السوري وإعلامهما يسوّقون مقولات ورؤية فلول حسني مبارك ومخلفات ابن علي ضد الثورات وراحوا ينظّرون لبطلان هذه الثورات وأنها مخترقة وعميلة، ثم رأينا في الجهة الأخرى بعض داعمي الثورات العربية ينكرون أن النظام السوري كان أصلا في مربع المقاومة بما يهبط إلى الكذب ويتماهى مع ما كان ولا يزال يقوله ويردده أعداء المقاومة التاريخيون الذين يتهمونها ويفترون عليها ليل نهار، وفي سبيل رد حزب نصر الله عن القصير وعن معاونة النظام الفاجر صار قوم يتكلمون عن ضرورة ضبط الحدود السياسية بين سوريا ولبنان كما لو كانت هذه الحدود مقدسات لا يجوز تجاوزها.. وصرنا نرى من يتمنى في جوهره أن تدخل (إسرائيل) وأمريكا المعركة لتكسير عظام النظام السوري وحزب نصر الله وإيران.. المشكلة هنا فيما يتبع هذا التقبل من انهدام الوعي تجاه مخططات أمريكا للمنطقة.. إلى غير ذلك من التحولات والارتباكات التي لا تراعي الفوارق بين المواقف وحدود المقبول والمرفوض منها. لذا لا بد من إعادة الحسابات وفرز المواقف وتصنيف الاتجاهات، ولا بد من تجاوز الخطاب الانفعالي والعاطفي والتنبه لوضع الأمور في مواضعها كمكتسبات وعي وتراكم خبرات.. أقصد فيما يتعلق بالمفاهيم الغازية والمرتبكة وليس في ضرورة ووجوب مواجهة النظام (المتبغل) في سوريا؛ وفي هذا السياق نتساءل: هل مشكلة الأمة مع حزب نصر الله ومع ميليشيات المالكي ومع النظام السوري ومع إيران - اليوم - أنهم شيعة أم أنهم قاتلون مستبدون؟ وهل مشكلة الأمة مع حزب نصر الله وميليشيات المالكي وإيران أنهم تدخلوا في سوريا ولم يلتزموا بالحدود السياسية التي رسمها "سايكس بيكو" و "سان ريمو" في عشرينيات القرن الماضي؛ أم أنهم تدخلوا بمذهبية بغيضة لدعم نظام فاجر ولقطع الطريق على ثورة شعب مظلوم منتهب؟ وهل مشكلة الأمة مع حزب نصر الله أن سلاحه في لبنان غير شرعي وأنه خارج سيطرة الحكومة الشرعية؛ أم أنه يقاتل به الثورة السورية ويستعمله في طائفيته النتنة؟ وفي المقابل هل مشكلة حزب نصر الله والنظام السوري وإيران مع حماس والإخوان هي على فرز من مع المقاومة ومن ضدها؛ أم لأن حماس والإخوان متصالحون مع ضميرهم الديني والوطني والقومي والإنساني ووقفوا مع الثورة السورية ورفضوا الغرق في الحرب الطائفية التي صنعها نظام بشار البائس وحلفاؤه المذهبيون؟ آخر القول: على أنصار المقاومة ابتداء وعلى كل مثقف ومفكر وصاحب رأي يسمعه الناس أن يعيدوا تثبيت مكتسباتهم ومكتسبات الأمة الفكرية والاتجاهية والثورية، وأن يتذكروا الفوارق مع المعسكر الصهيوأمريكي في المنطقة مهما تظاهر رموزه ونظمه بالحرص على الثورة السورية، ومهما اضطرت الأمة لرؤيتهم داخل معسكرها في لحظة ضرورة.. فما هو إلا بعض الوقت حتى يسقط النظام (المتبغل) في سوريا ثم تعود معادلات ستين سنة من المواجهة حاكمة على حراكاتنا من جديد..